التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (91)

ثم ذكر - سبحانه - الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله ، والتى تجعل صاحبها لا حرج عليه إذا ما قعد معها عن القتال ، فقال ، تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء . . . . مَا يُنْفِقُونَ } .

ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات ، منها ما جاء عن زيد بن ثابت أنه قال كنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت أكتب " براءة " ، فإنى لواضح القلم على أذنى ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بى يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } الآية .

وروى العوفى عن ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس اني نبعثوا غازين معه . فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مقرن المزنى ، فقالوا : يا رسول الله ، احملنا . فقال لهم : " والله لا أجد ما أحملكم عليه " ، فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محلا ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه فقال : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } . . " الآية .

وقال محمد بن إسحاق - في سياق غزوة تبوك - ثم : " إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم . . فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أهل حاجة فقال : " لا أجد ما أحملكم عليه " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون " .

والضعفاء : جمع ضعيف ، وهو من ليس عنده القوة على القيام بتكاليف الجهاد ، كالشيوخ والنساء والصبيان .

والمرضى : جمع مريض ، وهم الذين عرضت لهم أمراض حالت بينهم وبين الاشراك في القتال ، وهؤلاء عذرهم ينتهى بزوال أمراضهم .

والمعنى : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء } العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم ، أو لشيخوخة أقعدتهم ، { وَلاَ على المرضى } الذي حالت أمراضهم بينهم وبين الجهاد { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } وهم الفقراء القادرون على الحرب ، ولكنهم لا يجدون المال الذين ينفقونه في مطالب الجهاد ، ولا يجدون الرواحل التي يسافرون عليها أرض المعركة ، ليس على هؤلاء جميعا { حَرَجٌ } أى : إثم أو ذنب بسبب عدم خروجهم مع النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك لقتال الكافرين . .

وقوله : { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } : بيان لما يجب عليهم في حال قعودهم .

قال الجمل : ومعنى النصح - هنا - أن يقيموا في البلد ، ويحترزوا عن إنشاء الأراجيف ، وإثارة الفتن ، ويسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو ، ويقوموا بمصالح بيوتهم ، ويخلصوا الإِيمان والعمل لله ؛ ويتابعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجملة هذه الأمور تجرى مجرى النصح لله ورسوله .

وقوله : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله .

والمحسنون . جمع محسن ، وهو الذي يؤدى ما كله الله به على وجه حسن .

والسبيل : الطريق السهل المهد الموصل إلى البغية . ومن ، زائدة لتأكيد النفى .

أى : ليس لأحد أى طريق يسكلها لمؤاخذة هؤلاء المحسنين ، بسبب تخلفهم عن الجهاد ، بعد أن نصحوا لله ولرسوله ، وبعد أن حالت الموانع الحقيقة بنيهم وبين الخروج للجهاد .

قال الآلوسى : والجملة استئناف مقرر مضمون ما سبق على أبلغ وجه : وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام ، لأن معناه ، لا سبيل لعاتب عليهم ، أى : لا يمر بهم العاتب ، ولا يجوز في أرضهم ، فما أبعد العتاب عنهم ، وهو جار مجرى المثل .

ويحتمل أن يكون تعليلا لنفى الحرج عنهم و { المحسنين } على عمومه . أى ليس عليهم حرج ، لأنه ما على جنس المحسنين سبيل ، وهم من جملتهم .

وقال صاحب المنار : " والشرع الإلهى يجازى المحسن بأضعاف إحسانه ، ولا يؤاخذ المسئ إلا بقدر إساءته ، فإذا كان أولئك المعذورون في القعود عن الجهاد محسنين في سائر أعمالهم بالنصح المذكور . انقطعت طرق المؤاخذة دونهم والإِحسان أعم من النصح المذكرو فالجملة الكريمة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم مقرونا بالدليل ، فكل ناصح لله ورسوله محسن ، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج وهذه المبالغة في أعلى مكانه من أساليب البلاغة .

وقوله : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى ، والله تعالى - واسع المغفرة ، كثير الرحمة ، يستر على عباده المخلصين ما يصدر عنهم من تقصير تقتضيه طبيعتهم البشرية .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (91)

وأخيرا يحدد التبعة . فليس الخروج ضربة لازب على من يطيقون ومن لا يطيقون . فالإسلام دين اليسر ولا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها . والذين عجزوا عن النفرة لا تثريب عليهم ولا مؤاخذة لهم ، لأنهم معذورون :

( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا للّه ورسوله . ما على المحسنين من سبيل ، واللّه غفور رحيم . ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ) .

ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم ، أو لشيخوخة تقعدهم ؛ ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد ؛ ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به . . ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان ، وقلوبهم مخلصة للّه ورسوله ، لا يغشون ولا يخدعون ، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه - دون القتال - من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام ، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين . ليس عليهم جناح ، وهم يحسنون بقدر ما يستطيعون ، فلا جناح على المحسنين ، إنما الجناح على المسيئين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (91)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىَ الْمَرْضَىَ وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : ليس على أهل الزمانة وأهل العجز عن السفر والغزو ، ولا على المرضى ، ولا على من لا يجد نفقة يتبلغ بها إلى مغزاه حرج ، وهو الإثم يقول : ليس عليهم إثم إذا نصحوا الله ولرسوله في مغيبهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ما عَلى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ يقول : ليس على من أحسن فنصح الله ورسوله في تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جهاد معه لعذر يعذر به طريق يتطرّق عليه فيعاقب من قبله . وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : والله ساتر على ذنوب المحسنين ، يتغمدها بعوفه لهم عنها ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها .

وذُكر أن هذه الآية نزلت في عائذ بن عمرو المزني . وقال بعضهم : في عبد الله بن مغفل . ذكر من قال نزلت في عائذ بن عمرو :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لَيْسَ على الضّعَفَاءِ ولاَ على المَرْضى وَلا على الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلّهِ ورَسُولِهِ نزلت في عائذ بن عمرو .

ذكر من قال نزلت في ابن مغفل :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَيْسَ على الضّعَفاءِ وَلا على المَرْضَى . . . إلى قوله : حَزَنا أنْ لا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني ، فقالوا : يا رسول الله احملنا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَاللّهُ ما أجِدُ ما أحْمِلكُمْ عَلَيْهِ » فتولوا ولهم بكاء ، وعزّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا مَحملاً . فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه ، فقال : لَيْسَ على الضّعَفاءِ وَلا على المَرْض ولا على الذين لا يجدون ما ينقفون حرج . إلى قوله فهم لا يعلمون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (91)

يقول تعالى ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو زمانة أو عدم نفقة إثم ، و «الحرج » الإثم{[5832]} ، وقوله : { إذا نصحوا } يريد بنياتهم وأقوالهم سراً وجهراً ، وقرأ حيوة «نصحوا الله ورسوله » بغير لام وبنصب الهاء المكتوبة{[5833]} ، وقوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } الآية ، في لائمة تناط بهم أو تذنيب أو عقوبة ، ثم أكد الرجاء بقوله { والله غفور رحيم } وقرأ ابن عباس «والله لأهل الإساءة غفور رحيم » .

قال القاضي أبو محمد : وهذا على جهة التفسير أشبه منه على جهة التلاوة لخلافه المصحف ، واختلف فيمن المراد بقوله : { الذين لا يجدون ما ينفقون } ، فقالت فرقة : نزلت في بني مقرن .

قال القاضي أبو محمد : وبنو مقرن ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وليس في الصحابة ستة إخوة غيرهم ، وقيل كانوا سبعة{[5834]} ، وقيل نزلت في عبد الله بن مغفل المزني ، قاله ابن عباس .


[5832]:- هذه الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شيء سقط عنه، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال، وسقوط التكليف يكون إلى بدل هو فعل تارة، أو غرم تارة أخرى، ونظيرها قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقوله تبارك وتعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}. ومثل هذه الآيات ما رواه البخاري، والإمام أحمد، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وغيرهم- عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال: (لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فيه): قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: (حبسهم العذر)، فلا حرج على من حبسه العذر، وفضل الله كبير، ورحمته وسعت كل شيء.
[5833]:-يريد لفظ الجلالة.
[5834]:- في (القاموس) –مادة قرن- "عبد الله- وعبد الرحمن، وعقيل، ومعقل، والنعمان، وسويد، وسنان أولاد مقرن "كمحدث صحابيون".