{ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } أى : فحين أعطاهما - سبحانه - الولد الصالح الذي كانا يتمنيانه ، جعلا لله - تعالى - شركاء في هذه العطاء ، وأخلا بالشكر في مقابلة هذه النعمة أسوأ إخلال ، حيث نسبوا هذا العطاء إلى الأصنام والأوثان ، أو إلى الطبيعة كما يزعم الطبعيون أو إلى غير ذلك مما يتنافى مع إفراد الله - تعالى - بالعبادة والشكر .
وقوله { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه فيه معنى التعجيب من أحوالهم . أى : تنزه - سبحانه - وتقدس عن شرك هؤلاء الأغبياء الجاحدين الذين يقابلون نعم الله بالإشراك والكفران .
والضمير في { يُشْرِكُونَ } يعود على أولئك الآباء الذين جعلوا لله شركاء : هذا والمحققون من العلماء يرون أن هاتين الآيتين قد سيقتا توبيخا للمشركين حيث إن الله - تعالى - أنعم عليهم بخلقهم من نفس واحدة ، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن ، وأعطاهم الذرية ، وأخذ عليهم العهود بشكره على هذه النعم ، ولكنهم جحدوا نعمه وأشركوا معه في العبادة والشكر آلهة أخرى { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بهذا السياق آدم وحواء ، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد - بسنده - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لما طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحى الشيطان وأمره .
وقد أثبت ابن كثير في تفسيره ضعف هذا الحديث من عدة وجوه ، ثم قال : قال الحسن : عنى الله - تعالى - بهذه الآية ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده ، وقال قتادة : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله اولاداً فهودوا ونصروا . قال ابن كثير : وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ، ونحن على مذهب الحسن البصرى في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وقال صاحب الانتصاف : والأسلم والأقرب أن يكون المراد - والله أعلم - جنسى الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين . وكأن المعنى خلقكم جنسا واحداً ، وجعل أزواجكم منكم أيضاً لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت . وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون على حد قولهم : " بنو فلان قتلوا قتيلا " يعنى من نسبة البعض إلى الكل .
والذى نراه أن الآيتين ورادتان في توبيخ المشركين على شركهم ونقضهم لعهودهم مع الله - تعالى - لأن الأحاديث والأثار التي وردت في أنهما وردتا في شأن آدم وحواء لتسميتها ابنهما بعبد الحارث اتباعاً لوسوسة الشيطان لهما - ليست صحيحة ، كما أثبت ذلك علماء الحديث .
( فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون ! ) . .
إن بعض الروايات في التفسير تذكر هذه القصة على أنها قصة حقيقية وقعت لآدم وحواء . . إذ كان أبناؤهما يولدون مشوهين . فجاء إليهما الشيطان فأغرى حواء أن تسمي ما في بطنها " عبد الحارث " . . والحارث اسم لإبليس . ليولد صحيحاً ويعيش ؛ ففعلت وأغرت آدم معها ! وظاهر ما في هذه الرواية من طابع إسرائيلي . . ذلك أن التصور الإسرائيلي المسيحي - كما حرفوا ديانتهم - هو الذي يلقي عبء الغواية على حواء ، وهو مخالف تماماً للتصور الإسلامي الصحيح .
ولا حاجة بنا إلى هذه الإسرائيليات لتفسير هذا النص القرآني . . فهو يصور مدارج الانحراف في النفس البشرية . . ولقد كان المشركون على عهد رسول الله [ ص ] وقبله ، ينذرون بعض أبنائهم للآلهة ، أو لخدمة معابد الآلهة ! تقرباً وزلفى إلى الله ! ومع توجههم في أول الأمر لله ، فإنهم بعد دحرجة من قمة التوحيد إلى درك الوثنية كانوا ينذرون لهذه الآلهة أبناءهم لتعيش وتصح وتوقى المخاطر ! كما يجعل الناس اليوم نصيباً في أبدان أبنائهم للأولياء والقديسين . كأن يستبقوا شعر الغلام لا يحلق أول مرة إلا على ضريح ولي أو قديس . أو أن يستبقوه فلا ختان حتى يختن هناك . مع أن هؤلاء الناس اليوم يعترفون بالله الواحد . ثم يتبعون هذا الاعتراف بهذه الاتجاهات المشركة . والناس هم الناس !
( فتعالى الله عما يشركون ! ) .
وتنزه عن الشرك الذي يعتقدون ويزاولون !
على أننا نرى في زماننا هذا صنوفاً وألواناً من الشرك ؛ ممن يزعمون أنهم يوحدون الله ويسلمون له ، ترسم لنا صورة من مدارج الشرك التي ترسمها هذه النصوص .
إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها " القوم " ويسمونها " الوطن " ، ويسمونها " الشعب " . . إلى آخر ما يسمون . وهي لا تعدو أن تكون أصناماً غير مجسدة كالأصنام الساذجة التي كان يقيمها الوثنيون . ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله - سبحانه - في خلقه ، وينذر لها الأبناء كما كانوا ينذرون للآلهة القديمة ! ويضحون لها كالذبائح التي كانت تقدم في المعابد على نطاق واسع !
إن الناس يعترفون بالله ربا . ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهرياً ، بينما يجعلون أوامر هذه الآلهة ومطالبها " مقدسة " . تخالف في سبيلها أوامر الله وشرائعه ، بل تنبذ نبذاً . فكيف تكون الآلهة ؟ وكيف يكون الشرك ؟ وكيف يكون نصيب الشركاء في الأبناء . . إن لم يكن هو هذا الذي تزاوله الجاهلية الحديثة ! !
ولقد كانت الجاهلية القديمة اكثر أدباً مع الله . . لقد كانت تتخذ من دونه آلهة تقدم لها هذه التقدمات من الشرك في الأبناء والثمار والذبائح لتقرب الناس من الله زلفى ! فكان الله في حسها هو الأعلى . فأما الجاهلية الحديثة فهي تجعل الآلهة الأخرى أعلى من الله عندها . فتقدس ما تأمر به هذه الآلهة وتنبذ ما يأمر به الله نبذاً !
إننا نخدع أنفسنا حين نقف بالوثنية عند الشكل الساذج للأصنام والآلهة القديمة ، والشعائر التي كان الناس يزاولونها في عبادتها واتخاذها شفعاء عند الله . . إن شكل الأصنام والوثنية فقط هو الذي تغير . كما أن الشعائر هي التي تعقدت ، واتخذت لها عنوانات جديدة . . أما طبيعة الشرك وحقيقته فهي القائمة من وراء الأشكال والشعائر المتغيرة . .
وهذا ما ينبغي ألا يخدعنا عن الحقيقة !
إن الله - سبحانه - يأمر بالعفة والحشمة والفضيلة . ولكن " الوطن " أو " الإنتاج " يأمر بأن تخرج المرأة وتتبرج وتغري وتعمل مضيفة في الفنادق في صورة فتيات الجيشا في اليابان الوثنية ! فمن الإله الذي تتبع أوامره ؟ أهو الله سبحانه ؟ أم إنها الآلهة المدعاة ؟
إن الله - سبحانه - يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة . . ولكن " القومية " أو " الوطن " يأمر باستبعاد العقيدة من قاعدة التجمع ؛ وأن يكون الجنس أو القوم هو القاعدة ! . . فمن هو الإله الذي تتبع أوامره ؟ أهو الله - سبحانه - أم هي الآلهة المدعاة ؟ !
إن الله - سبحانه - يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة . ولكن عبداً من العبيد - أو مجموعة من " الشعب " - تقول : كلا ! إن العبيد هم الذين يشرعون وشريعتهم هي الحاكمة . . فمن هو الإله الذي تتبع اوامره ؟ أهو الله سبحانه أم هي الآلهة المدعاة ؟ !
إنها أمثلة لما يجري في الأرض كلها اليوم ؛ ولما تتعارف عليه البشرية الضالة . . أمثلة تكشف عن حقيقة الوثنية السائدة ، وحقيقة الأصنام المعبودة ، المقامة اليوم بديلاً من تلك الوثنية الصريحة ، ومن تلك الأصنام المنظورة ! ويجب ألا تخدعنا الأشكال المتغيرة للوثنية والشرك عن حقيقتها الثابتة ! ! !
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : فلما رزقهما الله ولدا صالحا كما سألا جعلا له شركاء فيما آتاهما ورزقهما .
ثم اختلف أهل التأويل في الشركاء التي جعلاها فيما أوتيا من المولود ، فقال بعضهم : جعلا له شركاء في الاسم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال حدثنا عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «كانَتْ حَوّاءُ لا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ ، فَنَذَرَتْ لَئِنْ عاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُسَمّيَنه عَبْدَ الحَرْثِ ، فعاشَ لَهَا وَلَدٌ ، فَسَمّتْهُ عَبْدَ الحَرْثِ ، وإنّمَا كانَ ذلكَ مِنْ وَحْيِ الشّيْطانِ » .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو العلاء ، عن سَمُرة بن جندب : أنه حدث أن آدم عليه السلام سمى ابنه عبد الحرث .
قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي العلاء بن الشّخيّر ، عن سمرة بن جندب ، قال : سمى آدم ابنه : عبد الحرث .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت حوّاء تلد لاَدم ، فتعبّدهم لله ، وتسميه عبد الله وعُبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاها إبليسُ وآدمَ ، فقال : إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه لعاش فولدت له رجلاً ، فسماه عبد الحرث ، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى : هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ . . . إلى قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا . . . إلى آخر الاَية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله في آدم : هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ . . . إلى قوله : فَمَرّتْ بِهِ فشكّت أحبلت أم لا ؟ فَلَمّا أثْقَلَتْ دَعَوَا اللّهَ رَبّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صَالِحا . . . الاَية ، فأتاهما الشيطان فقال : هل تدريان ما يولد لكما أم هل تدريان ما يكون أبهيمة تكون أم لا ؟ وزين لهما الباطل إنه غويّ مبين . وقد كانت قبل ذلك ولد ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان : إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويّا ومات كما مات الأوّلان فسميا ولديهما عبد الحرث فذلك قوله : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : لما وُلد له أوّل ولد ، أتاه إبليس فقال : إني سأنصح لك في شأن ولدك هذا تسميه عبد الحرث فقال آدم : أعوذ بالله من طاعتك قال ابن عباس : وكان اسمه في السماء الحارث . قال آدم : أعوذ بالله من طاعتك إني أطعتك في أكل الشجرة ، فأخرجتني من الجنة ، فلن أطيعك . فمات ولده ، ثم وُلد له بعد ذلك ولد آخر ، فقال : أطعني وإلاّ مات كما مات الأوّل فعصاه ، فمات ، فقال : لا أزال أقتلهم حتى تسميه عبد الحرث . فلم يزل به حتى سماه عبد الحرث ، فذلك قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا : أشركه في طاعته في غير عبادة ، ولم يُشرك بالله ، ولكن أطاعه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن هارون ، قال : أخبرنا الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، قال : ما أشرك آدمُ ولا حوّاء ، وكان لا يعيش لهما ولد ، فأتاهما الشيطان فقال : إن سرّكما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث فهو قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلَمّا تَغَشّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفا قال : كان آدم عليه السلام لا يولد له ولد إلاّ مات ، فجاءه الشيطان ، فقال : إن سرّك أن يعيش ولدك هذا ، فسميه عبد الحرث ففعل ، قال : فأشركا في الاسم ولم يُشركا في العبادة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا آتاهُمَا صَالحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا ذُكر لنا أنه كان لا يعيش لهما ولد ، فأتاهما الشيطان ، فقال لهما : سمياه عبد الحرث وكان من وحي الشيطان وأمره ، وكان شركا في طاعته ، ولم يكن شركا في عبادته .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال : كان لا يعيش لاَدم وامرأته ولد ، فقال لهما الشيطان : إذا ولد لكما ولد ، فسمياه عبد الحرث ففعلا وأطاعاه ، فذلك قول الله : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن سالم بن أبي حفصة ، عن سعيد بن جبير ، قوله : أثْقَلَتْ دَعَوَا اللّهَ رَبّهُما . . . إلى قوله تعالى : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال : لما حملت حوّاء في أوّل ولد ولدته حين أثقلت ، أتاها إبليس قبل أن تلد ، فقال : يا حوّاء ما هذا الذي بطنك ؟ فقالت : ما أدري . فقال : من أين يخرج ؟ من أنفك ، أو من عينك ، أو من أذنك ؟ قالت : لا أدري . قال : أرأيت إن خرج سليما أتطيعيني أنت فيما آمرك به ؟ قالت : نعم . قال : سميه عبد الحرث وقد كان يسمى إبليس الحرث ، فقالت : نعم . ثم قالت بعد ذلك لاَدم : أتاني آت في النوم فقال لي كذا وكذا ، فقال : إن ذلك الشيطان فاحذريه ، فإنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة ثم أتاها إبليس ، فأعاد عليها ، فقالت : نعم . فلما وضعته أخرجه الله سليما ، فسمته عبد الحرث ، فهو قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير وابن فضيل ، عن عبد الملك ، عن سعيد بن جبير ، قال : قيل له : أشرك آدم ؟ قال : أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك ولكن حوّاء لما أثقلت ، أتاها إبليس فقال لها : من أين يخرج هذا ، من أنفك أو من عينك أو من فيك ؟ فقنطها ، ثم قال : أرأيت إن خرج سويّا زاد ابن فضيل لم يضرّك ولم يقتلك أتطيعيني ؟ قالت : نعم . قال : فسميه عبد الحرث ففعلت . زاد جرير : فإنما كان شركه في الاسم .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : فولدت غلاما ، يعني حوّاء ، فأتاهما إبليس فقال : سموه عبدي وإلاّ قتلته قال له آدم عليه السلام : قد أطعتك وأخرجتني من الجنة ، فأبى أن يطيعه ، فسماه عبد الرحمن ، فسلط الله عليه إبليس فقتله . فحملت بآخر فلما ولدته قال لها : سميه عبدي وإلاّ قتلته قال له آدم : قد أطعتك فأخرجتني من الجنة . فأبى ، فسماه صالحا فقتله . فلما أن كان الثالث ، قال لهما : فإذا غُلبتم فسموه عبد الحرث وكان اسمَ إبليس وإنما سمي إبليس حين أُبلس . ففعلوا ، فذلك حين يقول الله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا يعني في التسمية .
وقال آخرون : بل المعنيّ بذلك رجل وامرأة من أهل الكفر من بني آدم جعلا لله شركاء من الاَلهة والأوثان حين رزقهما فارزقهما من الولد . وقالوا : معنى الكلام : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها : أي هذا الرجل الكافر ، حملت حملاً خفيفا ، فلما أثقلت دعوتما الله ربكما . قالوا : وهذا مما ابتدىء به الكلام على وجه الخطاب ، ثم ردّ إلى الخبر عن الغائب ، كما قيل : هُوَ الّذِي يُسَيّرُكُمْ فِي البَرّ والبَحْرِ حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ . وقد بيّنا نظائر ذلك بشواهده فيما مضى قبل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا قال : كان هذا في بعض أهل الملل ، ولم يكن بآدم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : عني بهذا ذرية آدم ، من أشرك منهم بعده . يعني بقوله : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادا فهوّدوا ونصروا .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب قول من قال : عني بقوله : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ في الاسم لا في العبادة ، وأن المعنيّ بذلك آدم وحوّاء لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك .
فإن قال قائل : فما أنت قائل إذ كان الأمر على ما وصفت في تأويل هذه الاَية ، وأن المعنيّ بها آدم وحوّاء في قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ؟ أهو استنكاف من الله أن يكون له في الأسماء شريك أو في العبادة ؟ فإن قلت في الأسماء دلّ على فساده قوله : أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وإن قلت في العبادة ، قيل لك : أفكان آدم أشرك في عبادة الله غيره ؟ قيل له : إن القول في تأويل قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ليس بالذي ظننت ، وإنما القول فيه : فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان . فأما الخبر عن آدم وحوّاء فقد انقضى عند قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا ثم استؤنف قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ يقول : هذه فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : شُرَكاءَ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : «جَعَلا لَهُ شِرْكا » بكسر الشين ، بمعنى الشركة . وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفيين وبعض البصريين : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ بضمّ الشين ، بمعنى جمع شريك .
وهذه القراءة أولى القراءتين بالصواب ، لأن القراءة لو صحت بكسر الشين لوجب أن يكون الكلام : فلما آتاهما صالحا جعلا لغيره فيه شركا لأن آدم وحوّاء لم يَدينا بأن ولدهما من عطية إبليس ثم يجعلا لله فيه شركا لتسميتهما إياه بعبد الله ، وإنما كانا يدينان لا شكّ بأن ولدهما من رزق الله وعطيته ، ثم سمياه عبد الحرث ، فجعلا لإبليس فيه شركا بالاسم ، فلو كانت قراءة من قرأ : «شِرْكا » صحيحة وجب ما قلنا أن يكون الكلام : جعلا لغيره فيه شركا ، وفي نزول وحي الله بقوله : جَعَلا لَهُ ما يوضح عن أن الصحيح من القراءة : شُرَكاءَ بضم الشين على ما بينت قبل .
فإن قال قائل : فإن آدم وحوّاء إنما سميا ابنهما عبد الحرث ، والحرث واحد ، وقوله : شُرَكاءَ جماعة ، فكيف وصفهما جلّ ثناؤه بأنهما جعلا له شركاء ، وإنما أشركا واحدا ؟ قيل : قد دللنا فيما مضى على أن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة إذا لم تقصد واحدا بعينه ولم تسمه ، كقوله : الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وإنما كان القائل ذلك واحدا ، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة ، إذ لم يقصد قصده ، وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها .
وأما قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ فتنزيه من الله تبارك وتعالى نفسه ، وتعظيم لها عما يقول فيه المبطلون ويدعون معه من الاَلهة والأوثان . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال : هو الإنكاف ، أنكف نفسه جلّ وعزّ ، يقول : عظم نفسه ، وأنكفته الملائكة وما سبح له .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، قال : سمعت صدقة يحدّث عن السديّ ، قال : هذا من الموصول والمفصول قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا في شأن آدم وحوّاء ، ثم قال الله تبارك وتعالى : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال : عما يشرك المشركون ، ولم يعنهما .
معنى { فلما آتاهما صالحاً } لما أتى من أتاه منهم ولداً صالحاً وضمير { جعلا } للنفس الواحدة وزوجها ، أي جعل الأبوان المشركان .
و« الشِّرْك » مصدر شَرَكه في كذا ، أي جعلا لله شركة ، والشركة تقتضي شريكاً أي جعلا لله شريكاً فيما آتاهما الله ، والخبر مراد منه مع الإخبار التعجيب من سفه آرائهم ، إذ لا يجعل رشيدُ الرأي شريكاً لأحد في ملكه وصنعه بدون حق ، فلذلك عُرف المشروك فيه بالموصولية فقيل { فيما آتاهما } دون الإضمار بأن يقال : جعلا له شركاً فيه : لما تؤذن به الصلة من فساد ذلك الجعْل ، وظُلم جاعله ، وعدم استحقاق المجعول شريكاً لما جعل له ، وكفران نعمة ذلك الجاعل ، إذ شَكَر لمن لم يُعطه ، وكفر من أعطاه ، وإخلاف الوعد المؤكد .
وجُعل الموصول ( ما ) دون ( منَ ) باعتبار أنه عطية ، أو لأن حالة الطفولة أشبه بغير العاقل .
وهذا الشرك لا يخلو عنه أحد من الكفار في العرب ، وبخاصة أهل مكة ، فإن بعض المشركين يجعل ابنه سادنا لبيوت الأصنام ، وبعضهم يحْجُر ابنه إلى صنم ليحفظه ويرعاه ، وخاصة في وقت الصبا ، وكل قبيلة تنتسب إلى صنمها الذي تعبده ، وبعضهم يسمى ابنه : عبد كذا ، مضافاً إلى اسم صنم كما سَمُّوا عبدَ العُزى ، وعبدَ شمس ، وعبدَ مناة ، وعبدَ يا ليل ، وعبدَ ضخم ، وكذلك امرؤ القيس ، وزيد مناءة ، لأن الإضافة على معنى التمليك والتعبيد ، وقد قال أبو سفيان ، يومَ أحد : « اعْلُ هُبل » وقالت امرأة الطفيل لزوجها الطفيل بن عَمرو الدوسي حين أسلم وأمرها بأن تسلم « لا نخشى على الصبية من ( ذي الشّرَى ) شيئاً » ذو الشرى صنم .
وجملة : { فتعالى الله عما يشركون } أي : تنزه الله عن إشراكهم كله : ما ذُكر منه آنفاً من إشراك الوالدين مع الله فيما آتاهما ، وما لم يذكر من أصناف إشراكهم .
وموقع فاء التفريع في قوله : { فتعالى الله } موقع بديع ، لأن التنزيه عما أحدثوه من الشرك يترتب على ما قبله من انفراده بالخلْق العجيب ، والمنن العظيمة ، فهو متعال عن إشراكهم لا يليق به ذلك ، وليس له شريك بحق ، وهو إنشاء تنزيه غيرُ مقصود به مخاطب .
وضمير الجمع في قوله : { يُشركون } عائد إلى المشركين الموجودين لأن الجملة كالنتيجة لما سبقها من دليل خَلْق الله إياهم .
وقد روَى الترمذي وأحمد : حديثاً عن سُمرة بن جندب ، في تسويل الشيطان لحواء أن تسمي ولدها عبد الحارث ، والحارث اسم إبليس ، قال الترمذي حديث حسن غريب ، ووسمه ابن العربي في « أحكام القرآن » ، بالضعف ، وتبعه تلميذه القرطبي وبيّن ابنُ كثير ما في سنده من العلل ، على أن المفسرين ألصقوه بالآية وجعلوه تفسيراً لها ، وليس فيه على ضعفه أنه فسّر به الآية ولكن الترمذي جعله في باب تفسير سورة الأعراف من « سنُنه » .
وقال بعض المفسرين : الخطاب في { خلقكم من نفس واحدة } لقريش خاصة ، والنفس الواحدة هو قُصي بنُ كلاب تزوج امرأة من خُزاعة فلما آتاهما الله أولاداً أربعة ذكوراً سمى ثلاثة منهم عبد مناف ، وعبد العُزى ، وعبد الدار ، وسمى الرابع « عبداً » بدون إضافة وهو الذي يُدعى بعبْد قُصي .
وقرأ نافع ، وعاصم في رواية أبي بكر عنه ، وأبو جعفر : شِرْكاً بكسر الشين وسكون الراء أي اشْتراكاً مع الله ، والمفعول الثاني لفعل جعلا محذوف للعلم به ، أي جعلا له الأصنام شركاً ، وقرأ بقية العشرة شُركاء بضم الشين جمع شريك ، والقراءتان متحدتان معنى .
وفي جملة : { فتعالى الله عما يشركون } محسن من البديع وهو مجيء الكلام متزناً على ميزان الشعر ، من غير أن يكون قصيدة ، فإن هذه الجملة تدخل في ميزان الرَمل .
وفيها الالتفات من الخطاب الذي سبق في قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } وليس عائد إلى ما قبله ، لأن ما قبله كان بصيغة المثنى خمس مرات من قوله : { دَعوا الله ربهما } إلى قوله { فيما آتاهما } .