ثم بين - سبحانه - المنافع التي تعود عليهم لو اتبعوا الحق ، بعد أن بين الأضرار التي ترتبت على اتباعهم للباطل فقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي : لو أن أولئك اليهود النابذين لكتاب الله المتبعين للأوهام والأباطيل ، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالتوارة إيماناً حقاً ، واتقوا الله ، فاجتنبوا ما يؤثمهم ومنه السحر والتمويه ، لكانت لهم مثوبة من عند الله ، هي خير لهم من السحر وغيره ، ولو كانوا من أولى العلم النافع لفهموا ذلك ، واستبدلوا بالسحر الإيمان والتقوى ، ولكنهم قوم لا يعقلون .
فقوله تعالى : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ } جواب للو الشرطية ، وأصل التركيب ، لأثيبوا مثوبة من عند الله خيراً مما شروا به أنفسهم ، فحذف الفعل ، وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم ، للدلالة على ثبوت المثوبة لهم والجزم بخيريتها .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : ( فإن قلت : كيف أو ثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو ؟ قلت : لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك .
وقال الإِمام الآلوسي : ( المثوبة : اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب ، والثواب الجزاء الذي يعطي للغير . ولم يقل - سبحانه - لمثوبة الله مع أنه أخصر ، ليشعر التنكير بالتقليل فيفيد أن شيئاً قليلاً من ثواب الله - تعالى - في الآخرة الدائمة ، خير من متاع كثير في الدنيا الفانية ، فكيف ثواب اله - تعالى - كثير دائم ، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى .
وقوله تعالى : { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } شرط آخر محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه ، وحذف مفعول { يَعْلَمُونَ } لدلالة { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ } عليه . أي : لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر بالإِيمان .
وبذلك تكون الآيات الكريمة التي سقناها في هذا البحث قد دمغت بني إسرائيل بجحود الحق ، ونبذهم لتعاليم كتابهم وإيثارهم عليها الأكاذيب والأباطيل ، وسيرهم في طريق الشر عن تعمد وإصرار ، وعدم عملهم بما يعلمون لانحراف طباعهم ، وحماقة تفكيرهم وسوء تدبيرهم . واستحواذ الشيطان عليهم . . { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِين } هذا ، ويحسن بنا قبل أن نختم هذا البحث ، أن نذكر كلمة موجزة عن السحر فنقول :
السحر : في أصل اللغة معناه : الصرف ، ومنه قوله تعالى { فأنى تُسْحَرُونَ } أي : فكيف تصرفون عن الحق إلى الباطل .
وقد ذكر السحر في القرآن والسنة ، واتفق علماء المسلمين على أن هناك شيئاً يسمى سحراً ، إلا أنهم اختلفوا في تصويره .
فجمهور أهل السنة ذهب إلى أن للسحر آثاراً حقيقية ، وأن الساحر قد يأتي بأشياء غير عادية ، إلا أن الفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله - تعالى - واستدلوا على ذلك بأدلة منها .
أولا : أن الله - تعالى - قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن يستعيذ به { وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } وهم السحرة - على أرجح الأقوال .
قال الإِمام ابن كثير : قوله تعالى { وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } قال مجاهد وعكرة والحسن وقتادة والضحاك ، يعني السواحر قال مجاهد " إذا رقين ونفثن في العقد " .
فالآية الكريمة تدل على أن للسحر آثاراً حقيقية ، وإلا لما أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرور السحرة .
ثانياً : قال الإِمام البخاري : - في باب هل يستخرج السحر - : حدثني عبد الله بن محمد ، قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : أول من حدثنا به ابن جريج يقول : حدثني آل عروة عن عروة ، فسألت هشاماً عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك . فقال : " " يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر ، ما بال الرجل : مطبوب ، قال ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم - رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقاً - قال . وفيم : قال : في مشط ومشاطه ، قال : وأين ؟ قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان . قالت : فأتى البئر حتى استخرجه ، فقال : " هذه البئر التي أريتها وكأن نخلها رءوس الشياطين " قال فاستخرج - أي السحر - قالت : فقلت أفلا - أي - تنشرت ؟ فقالت : " إن الله قد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً " " .
فهذا الحديث الصحيح يفيد أن السحر قد أثر في جسم الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من المرض أو الثقل ، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير في عقله .
قال الإِمام ابن القيم : هذا هو الحديث الذي رواه البخاري ، وهو ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون في صحته ، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه ، ولم يتكلم فيه أهل الحديث بكلمة واحدة ، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقه ، وهؤلاء أعلم بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأيامه .
وقال الإِمام القرطبي " الأدلة متوفرة على أن للسحر حقيقة ، فهو مقطعوع به بإخبار الله - تعالى - ورسوله على وجوده ووقوعه ، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإِجماع ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق ، ولقد شاع السحر وذاع في ساق الزمان ، وتكلم الناس فيه ، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله .
وقال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي . قال المازري : " مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة . خلافا لمن أنكر ذلك وني حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها . وقد ذكره الله - تعالى - في كتابه وذكر أنه مما يتعلم . وذكر فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به . وأنه يفرق بين المرء وزوجه . وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له ، وهذا الحديث أيضاً مصرح بإثباته .
وأنه أشياء دفنت وأخرجت ولا يستنكر في العقل أن الله - سبحانه - يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام ، أو المزج بين قويى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر . قال : وقد أنكر بعض المتبدعة هذا الحدجيث لسبب آخر . فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها ، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا الذي ادعاه بعض المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك . قال القاضي عياض : وقد جاءت روايات مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه ، لا على قوله وقلبه واعقتاده ، ويكون معنى قوله في الحديث : " حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأنيهن " أن يظهر من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن ، فإذا دنا منهن أخذته أخذه السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور .
أما المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن السحر لا حقيقة له ، وإنما هو تخييل وتمويه كما قال تعالى في سحرة فرعون { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } فأخبر - سبحانه - أن ما ظنوه سعياً منها لم يكن سعياً على الحقيقة إنما كان تخييلا وتمويهاً . وقال تعالى في سحرة فرعون أيضاً { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أي فلما ألقوا عصيهم موهوا على الناس حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى ، وأرهبوهم بما فعلوه ، وجاءوا بسحر عظيم في فنه .
والذي نراه أن السحر على أضرب منها :
أولا : ضرب يترتب على مزاولته قلب الحقائق كقلب الإِنسان حيواناً وعكسه ، وهذا قد منعه المعتزلة بحجة أن الساحر لو أمكمنه ذلك لا لتلبس فعله هذا بمعجزات الأنبياء . وأهل السنة أجازوا وقوعه وإن كان لم يقع فعلا . ويفرقون بينه وبين المعجزة إن وقع ، بأن المعجزة خارق يظهر على يد من يدعى النبوة على سبيل التحدي والمعارضة ، والسحر ليس فيه دعوة نبوة ولا معارضة .
هذا ، مع ملاحظة أن السحر يمكن تعلمه وتعليمه ، ولا يظهر إلا على يد شرير بخلاف المعجزة .
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين : وهذا النوع لم يقع لنا دليل في الشريعة على وقوعه ، وربما كانت الحاجة إلى الفرق بين المعجزة والسحر فرقاً واضحاً تقتضي عدم وقوعه ، فالساحر لا يبلغ أن يقلب العصا ثعباناً ، ولا أن يفلق البحر فتمر بين فرقيه الجيوش ولا أن يجعل الماء ينبع بين الأصابع فتروى منه العطاش ، أعني أنه لا يجزي على يده من خوارق العادات ، مثل ما يجري على أيدي الأنبياء للإِعجاز .
ثانياً : أن يزاول بعض أرباب النفوس الخبيثة أفعالا يترتب عيلها الضرر بدون مماسة ولا ملابسة لمن وقع عليه الضرر ، وهذا الضرب قد جوز وقوعه أهل السنة ومنعه المعتزلة ، ومن أمثلته ما يفعله السحرة للتفريق بين المرء وزوجه والظاهر في هذا الضرب قول أهل السنة لأن القرآن الكريم قد حكى عن السحرة أنهم يتعلمون من السحر ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وقد حص الحديث أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حينما استخرج السحر خف جسمه صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال .
ثالثاً : مزاولة أسباب يترتب عليها آثار ظاهريه لا حقيقية وهذا الضرب واقع باتفاق بين أهل السنة والمعتزلة ، وقد حكاه القرآن الكريم عن سحرة فرعون في قوله تعالى : { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم } وفي قوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } هذا ، وقد حذر الإِسلام من تعاطى السحر للأذى ، وجاءت تعاليمه بذمة وتحريمه ، وتوعدت مرتكبه بالعقوبات الأليمة ، ففي الحديث الشريف " حد الساحر ضربه بالسيف " .
وقد أفتى بعض الفقهاء بقتل الساحر لأنه زنديق ، وبعضهم أفتى بأن الساحر إذا كان قد أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقنص منه ، وإن كان قد أحدث به ما لا قصاص فيه ، حكم عليه بدية مناسبة .
وبعد : فهذه كلمة ذكرناها عن السحر ، لم نقصد بها الخوض في تفصيلاته . وإنما قصدنا بها إعطاء القارئ فكرة مختصرة عنه بمناسبة حديثنا عن رذائل اليهود التي منها نبذهم لكتاب الله واتباعهم للأوهام والأباطيل والأكاديب .
{ وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُواْ واتّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ اللّهِ خَيْرٌ لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقُوا } ، لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرّقون به بين المرء وزوجه آمنوا ، فصدّقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم ، واتقوا ربهم فخافوه فخافوا عقابه ، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه لكان جزاء الله إياهم وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به لو كانوا يعلمون أن ثواب الله إياهم على ذلك خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به . وإنما نفى بقوله : لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، العلم عنهم أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله وقدر جزائه على طاعته .
والمثوبة في كلام العرب مصدرٌ من قول القائل : أثبتك إثابةً وثوابا ومَثُوبة ، فأصل ذلك من ثاب إليك الشيء بمعنى رجع ، ثم يقال : أثبته إليك : أي رجعته إليك ورددته . فكان معنى إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها : إرجاعه إليها منها بدلاً ، وردّه عليه منها عوضا . ثم جعل كلّ معوّض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه مثيبا له . ومنه ثواب الله عزّ وجل عباده على أعمالهم ، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه ، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له . وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : { وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ } مما اكتفي بدلالة الكلام على معناه عن ذكر جوابه ، وأن معناه : ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا ولكنه استغنى بدلالة الخبر عن المثوبة عن قوله : لأثيبوا . وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك ، ويرى أن جواب قوله : وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا لَمَثُوبَةٌ وأن «لو » إنما أجيبت بالمثوبة ، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى «لئن » في أنهما جزاءان ، فإنهما جوابان للإيمان ، فأدخل جواب كلّ واحدة منهما على صاحبتها ، فأجيبت «لو » بجواب «لئن » ، و«لئن » بجواب «لو » لذلك وإن اختلفت أجوبتهما فكانت «لو » من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل ، وكانت «لئن » من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل لما وصفنا من تقاربهما ، فكان يتأوّل معنى قوله : { وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا } : ولئن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير .
وبما قلنا في تأويل المثوبة قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } يقول : ثواب من عند الله .
حدثني يونس ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } أما المثوبة ، فهو الثواب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقُوا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ } يقول : لثواب من عند الله .
{ ولو أنهم آمنوا } بالرسول والكتاب . { واتقوا } بترك المعاصي ، كنبذ كتاب الله واتباع السحر { لمثوبة من عند الله خير } جواب لو ، وأصله لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم ، فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية لتدل على ثبات المثوبة والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ، وتنكير المثوبة لأن المعنى لشيء من الثواب خير ، وقيل : لو للتمني ، و{ لمثوبة } كلام مبتدأ . وقرئ { لمثوبة } كمشورة ، وإنما سمي الجزاء ثوابا ومثوبة لأن المحسن يثوب إليه { لو كانوا يعلمون } أن ثواب الله خير مما هم فيه ، وقد علموا لكنه جهلهم لترك التدبر ، أو العمل بالعلم .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }( 103 )
وقوله تعالى : { ولو أنهم آمنوا } : موضع «أن » رفع ، المعنى لو وقع إيمانهم ، ويعني الذين اشتروا السحر ، { ولو } تقتضي جواباً ، فقالت فرقة جوابها { لمثوبة } ، لأنها مصدر للمضي والاستقبال ، وجواب { لو } لا يكون إلا ماضياً أو بمعناه ، وقال الأخفش : لا جواب ل { لو } في هذه مظهراً ولكنه مقدر ، أي لو آمنوا لأثيبوا .
وقرأ قتادة وأبو السمال وابن بريدة «لمثْوَبة » بسكون الثاء وفتح الواو ، وهو مصدر أيضاً كمشورة ومشورة ، ومثوبة رفع بالابتداء و { خير } خبره والجملة خبر ان ، والمثوبة عند جمهور الناس بمعنى الثواب والأجر ، وهذا هو الصحيح ، وقال قوم : معناه الرجعة إلى الله من ثاب يثوب إذا رجع ، واللام فيها لام القسم( {[1047]} ) لأن لام الابتداء مستغنى عنها ، وهذه لا غنى عنها ، وقوله تعالى : { لو كانوا يعلمون } يحتمل نفي العلم عنهم ، ويحتمل أن يراد : لو كانوا يعلمون علماً ينفع .
أي لو آمنوا بمحمد واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله ، ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة .
و ( لو ) شرطية امتناعية اقترن شرطها بأن مع التزام الفعل الماضي في جملته على حد قول امرىء القيس :
ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ ***كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
و ( أن ) مع صلتها في محل مبتدأ عند جمهور البصريين وما في جمل الصلة من المسند والمسند إليه أكمل الفائدة فأغنى عن الخبر . وقيل خبرها محذوف تقديره ثابت أي ولو إيمانهم ثابت .
وقوله : { لمثوبة } يترجح أن يكون جواب ( لو ) فإنه مقترن باللام التي يكثر اقتران جواب ( لو ) المثبت بها والجواب هنا جملة اسمية وهي لا تقع جواباً للو في الغالب وكان هذا الجواب غير ظاهر الترتب والتعليق على جملة الشرط لأن مثوبة الله خير سواء آمن اليهود واتقوا أم لم يفعلوا . قال بعض النحاة الجواب محذوف أي لأثيبوا ومثوبة من عند الله خير . وعدل عنه صاحب « الكشاف » فقال : أوثرت الجملة الاسمية في جواب ( لو ) على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في { سلام عليكم } [ الزمر : 73 ] لذلك اهـ . ومراده أن تقدير الجواب لأثيبوا مثوبة من الله خيراً لهم مما شروا به أنفسهم ، أو لمثوبةً بالنصب على أنه مصدر بدل من فعله ، وكيفما كان فالفعل أو بدله يدلان على الحدوث فلا دلالة له على الدوام والثبات . ولما كان المقام يقتضي حصول المثوبة وثباتها وثبات الخيرية لها ليحصل مجموع معان عدل عن النصب المؤذن بالفعل إلى الرفع لأن الجملة الاسمية لا تفيد الحدوث بل الثبوت ، وينتقل من إفادتها الثبوت إلى إفادة الدوام والثبات فدلالة الآية على ثبات المثوبة بالعدول عن نصب المصدر إلى رفعه كما في { سلام عليكم } و { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] ودلالتها على ثبات نسبة الخيرية للمثوبة من كون النسبة مستفادة من جملة اسمية فصارت الجملة بمنزلة جملتين لأن أصل المصدر الآتي بدلاً من فعله أن يدل على نسبة لفاعله فلو قيل ( لمثوبةً ) بالنصب لكان تقديره لأثيبوا مثوبة فإذا حولت إلى المصدر المرفوع لزم أن تعتبر ما كان فيه من النسبة قبل الرفع ، ولما كان المصدر المرفوع لا نسبة فيه علم السامع أن التقدير لمثوبة لهم كما أنك إذا قلت سلاماً وحمداً علم السامع أنك تريد سلمتُ سلاماً وحمدتُ حمداً ، فإذا قلت سلام وحمد كان التقدير سلام مني وحمد مني ، وهذا وجه تنظير « الكشاف » وقرينة كون هذا المصدر في الأصل منصوباً وقوعه جواباً للو المتأصل في الفعلية ، ثم إذا سمع قوله { خير } علم السامع أنه خبر عن المثوبة بعد تحويلها فاستفاد ثبات الخيرية ولهذا لم يتعرض صاحب « الكشاف » لبيان إفادة الجملة ثبات الخيرية للمثوبة لأنه لصراحته لا يحتاج للبيان فإن كل جملة اسمية تدل على ثبات خبرها لمبتدئها .
وبهذا ظهر الترتب لأن المقصود من الإخبار عن المثوبة بأنها خير أنها تثبت لهم لو آمنوا .
وعندي وجه آخر وهو أن يقال إن قوله : { لمثوبة من عند الله خير } دليل الجواب بطريقة التعريض فإنه لما جعل معلقاً على قوله : { ولو أنهم آمنوا واتقوا } علم أن في هذا الخبر شيئاً يهمهم . ولما كانت ( لو ) امتناعية ووقع في موضع جوابها جملة خبرية تامة علم السامع أن هذا الخبر ممتنع ثبوته لمن امتنع منه شرط لو فيكون تنكيلاً عليهم وتمليحاً بهم . وقد قيل : إن ( لو ) للتمني على حد { لو أن لنا كرة } [ الشعراء : 102 ] . والتحقيق أن لو التي للتمني هي لو الشرطية أشربت معنى التمني لأن الممتنع يتمنى إن كان محبوباً : * وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا * واستدل على هذا بأنها إذا جاءت للتمني أجيبت جوابين جواباً منصوباً كجواب ليت وجواباً مقترناً باللام كجواب الامتناعية كقول المهلهل :
فلو نبش المقابر عن كليب *** فيخبر بالذنائب أي زيـر
ويوم الشعثمين لقر عينـاً *** وكيف لقاء من تحت القبور
فأجيب بقوله : فيخبر وقوله : لقر عيناً . والتمني على تقديره مجاز من الله تعالى عن الدعاء للإيمان والطاعة أو تمثيل لحال الداعي لذلك بحال المتمني فاستعمل له المركب الموضوع للتمني أو هو ما لو نطق به العربي في هذا المقام لنطق بالتمني على نحو ما قيل في قوله تعالى : { لعكم تتقون } [ البقرة : 21 ] ونحوه . وعلى هذا الوجه يكون قوله { لمثوبة } مستأنفاً واللام للقسم .
والمثوبة اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي ، ويقال ثوب وأثوب بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة والمكروهة .
وقوله : { لو كانوا يعلمون } شرط ثان محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه وحذف مفعول { يعلمون } لدلالة المثوبة من الله خير ، أي لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر .
وليس تكرير اللفظة أو الجملة في فواصل القرآن بإيطاء لأن الإيطاء إنما يعاب في الشعر دون النثر لأن النثر إنما يعتد فيه بمطابقة مقتضى الحال وفائدة هذا التكرير التسجيل عليهم بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال لليهود: {ولو أنهم آمنوا}، يعني صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم
{لمثوبة من عند الله}، يقول: لكان ثوابهم عند الله
{لو}، يعني: إن {كانوا يعلمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقُوا}: لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرّقون به بين المرء وزوجه آمنوا، فصدّقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم، واتقوا ربهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه لكان جزاء الله إياهم وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به لو كانوا يعلمون أن ثواب الله إياهم على ذلك خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به. وإنما نفى بقوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، العلم عنهم أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله وقدر جزائه على طاعته.
والمثوبة في كلام العرب مصدرٌ من قول القائل: أثبتك إثابةً وثوابا ومَثُوبة، فأصل ذلك من ثاب إليك الشيء بمعنى رجع، ثم يقال: أثبته إليك: أي رجعته إليك ورددته. فكان معنى إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها: إرجاعه إليها منها بدلاً، وردّه عليه منها عوضا. ثم جعل كلّ معوّض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه مثيبا له. ومنه ثواب الله عزّ وجل عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: {وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ} مما اكتفي بدلالة الكلام على معناه عن ذكر جوابه، وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا ولكنه استغنى بدلالة الخبر عن المثوبة عن قوله: لأثيبوا. وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك، ويرى أن جواب قوله: وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا لَمَثُوبَةٌ وأن «لو» إنما أجيبت بالمثوبة، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى «لئن» في أنهما جزاءان، فإنهما جوابان للإيمان، فأدخل جواب كلّ واحدة منهما على صاحبتها، فأجيبت «لو» بجواب «لئن»، و«لئن» بجواب «لو» لذلك وإن اختلفت أجوبتهما فكانت «لو» من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل، وكانت «لئن» من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل لما وصفنا من تقاربهما، فكان يتأوّل معنى قوله: {وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا}: ولئن آمنوا واتقوا، لمثوبة من عند الله خير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الثواب: هو الجزاء على العمل بالإحسان، وهو منافع مستحقة يقاربها تعظيم وتبجيل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{واتقوا} الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين {لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المثوبة عند جمهور الناس بمعنى: الثواب والأجر، وهذا هو الصحيح. وقال قوم: معناه الرجعة إلى الله من ثاب يثوب إذا رجع، واللام فيها لام القسم، لأن لام الابتداء مستغنى عنها، وهذه لا غنى عنها، وقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل أن يراد: لو كانوا يعلمون علماً ينفع...
اعلم أن الضمير عائد إلى اليهود الذين تقدم ذكرهم، فإنه تعالى لما بين فيهم الوعيد بقوله: {ولبئس ما شروا به} أتبعه بالوعد جامعا بين الترهيب والترغيب لأن الجمع بينهما أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية...
أما قوله تعالى: {آمنوا} فاعلم أنه تعالى لما قال: {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم} ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين وأنهم تمسكوا بالسحر. قال من بعد: {ولو أنهم آمنوا} يعني بما نبذوه من كتاب الله. فإن حملت ذلك على القرآن جاز، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز؛ وإن حملته على الأمرين جاز، والمراد من التقوى الاحتراز عن فعل المنهيات وترك المأمورات...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والإيمان والتقوى: الإيمان التام، والتقوى الجامعة لضروبها، أو الإيمان بمحمد وبما جاء به، وتقوى الكفر والسحر، قولان متقاربان. وفي وصف المثوبة بكونها من عند الله، تفخيم وتعظيم لها، ولمناسبة الإيمان والتقوى. لذلك، كان المعنى: أن الذي آمنتم به واتقيتم محارمه، هو الذي ثوابكم منه على ذلك، فهو المتكفل بذلك لكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين ما عليهم فيما ارتكبوه من المضار اتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال:
{ولو أنهم آمنوا} أي بما دعوا إليه من هذا القرآن، ومن اعتقاد أن الفاعل في كل شيء إنما هو الله لا السحر...
{واتقوا} ما يقدح في الإيمان من الوقوف مع ما كان حقاً فنسخ من التوراة فصار باطلاً، ومن الإقدام على ما لم يكن حقاً أصلاً من السحر لأثيبوا خيراً مما تركوا، لأن من ترك شيئاً عوضه الله خيراً منه؛ هكذا الجواب ولكنه عبر عنه بما يقتضي الثبوت والدوام والشرف إلى غير ذلك مما تقصر عنه الأذهان من بلاغات القرآن فقال: {لمثوبة} صيغة مفعلة من الثواب وهو الجزاء بالخير، وفي الصيغة إشعار بعلو وثبات -قاله الحرالي. وشرفها بقوله: {من عند الله} الذي له جميع صفات الكمال. وزادها شرفاً بقوله: {خير}، مع حذف المفضل عليه. قاله الحرالي: وسوى بين هذه المثوبة ومضمون الرسالة في كونهما من عند الله تشريفاً لهذه المثوبة وإلحاقاً لها بالنمط العلي من علمه وحكمته ومضاء كلمته -...
وهذه المثوبة عامة لما يحصل في الدنيا والأخرى من الخيرات التي منها ما يعطيه الله لصالحي عباده من التصرف بأسماء الله الحسنى على حسب ما تعطيه مفهوماتها من المنافع، ومن ذلك واردات الآثار ككون الفاتحة شفاء وآية الكرسي حرز من الشيطان ونحو ذلك من منافع القرآن والأذكار...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لو كانوا يعلمون} أي إنهم في كل ما هم عليه من الأباطيل، ومن زعمهم أنها ترجع إلى الكتاب بضروب من التأويل، يتبعون الظنون ويعتمدون على التقليد، وليسوا على شيء من العلم الصحيح – ولو كانوا يعلمون علما صحيحا لظهر أثره في أعمالهم ولآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه فكانوا من المفلحين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون).. وينطبق هذا القول على الذين كانوا يتعلمون السحر من الملكين ببابل، وعلى الذين يتبعون ما تقصه الشياطين عن عهد سليمان وملكه، وهم اليهود الذين ينبذون كتاب الله وراءهم ظهريا، ويتبعون هذا الباطل وهذا الشر الذميم.
وبعد فلا بد من كلمة هنا عن السحر، وعما يفرق بين المرء وزوجه، مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه، ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله.. إنه ما يزال مشاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد. لقد سمي بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها!.. هذا "التيليبياثي "-التخاطر عن بعد- ما هو؟ وكيف يتم؟ كيف يملك إنسان أن يدعو إنسانا على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت الإنسان في العادة ولا بصره، فيتلقى عنه، دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد؟...
وهذا التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة، وأن يتصل فكر بفكر، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر، وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر، كأنما يقرأ من كتاب مفتوح؟...
السحر من قبيل هذه الأمور. وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور. وقد تكون صورة من صورة: القدرة على الإيحاء والتأثير، إما في الحواس والأفكار، وإما في الأشياء والأجسام.. وإن كان السحر الذي ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) -ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه، وبين الصديق وصديقه. فالانفعالات تنشأ من التأثرات. وإن كانت الوسائل والآثار، والأسباب والمسببات، لا تقع كلها إلا بإذن الله، على النحو الذي أسلفنا.
أما من هما الملكان: هاروت وماروت؟ ومتى كانا ببابل؟ فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود. بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها. وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين بها؛ وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض، ولم يكن هنالك ما يدعو إلى تفصيل أكثر. لأن هذا التفصيل ليس هو المقصود. ولا أحب أن نجري نحن- في ظلال القرآن -خلف الأساطير الكثيرة التي وردت حول قصة الملكين. فليست هنالك رواية واحدة محققة يوثق بها. ولقد مضى في تاريخ البشرية من الآيات والابتلاءات ما يناسب حالتها وإدراكها في كل طور من أطوارها. فإذا جاء الاختيار في صورة ملكين- أو في صورة رجلين طيبين كالملائكة -فليس هذا غريبا ولا شاذا بالقياس إلى شتى الصور وشتى الابتلاءات الخارقة، التي مرت بها البشرية وهي تحبو، وهي تخطو، وهي تقفو أشعة الشعلة الإلهية المنيرة في غياهب الليل البهيم! والمفهومات الواضحة المحكمة في هذه الآيات تغني عن السعي وراء المتشابه فيها بالقياس إلينا بعد ذلك الزمن المديد. وحسبنا أن نعلم منها ضلال بني إسرائيل في جريهم وراء الأساطير، ونبذهم كتاب الله المستيقن، وأن نعرف أن السحر من عمل الشيطان؛ وأنه من ثم كفر يدان به الإنسان، ويفقد به في الآخرة كل نصيب وكل رصيد...
يفتح الله جل جلاله أمام عباده أبواب التوبة والرحمة. لقد بين لهم أن السحر كفر، وإن من يقوم به يبعث كافرا يوم القيامة ويخلد في النار..
وقال لهم سبحانه وتعالى لو أنهم امتنعوا عن تعلم السحر ليمتازوا به على من سواهم امتيازا في الضرر والإيذاء.. لكان ذلك خيرا لهم عند الله تبارك وتعالى.. لأن الملكين اللذين نزلا لتعليم السحر قال الله سبحانه عنهما: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}. إذن فممارسة السحر كفر. فلو أنهم آمنوا بهذه القضية وبأنهم يدخلون في الكفر، واتقوا الله لكان ذلك ثوابا لهم عند الله وخيراً في الدنيا والآخرة..
ولكن ما هي المثوبة؟ هي الثواب على العمل الصالح.. يقابلها العقوبة وهي العقاب على العمل السيئ.. وهي مشتقة من ثاب أي رجع.. ولذلك يسمى المبلغ عن الإمام في الصلاة المثوب.. لأن الإمام يقول الله أكبر فيرددها المبلغ عن الإمام بصوت عال حتى يسمعها المصلون الذين لا يصلهم صوت الإمام.. وهذا اسمه التثويب.. أي إعادة ما يقوله الإمام لتزداد فرصة الذين لم يسمعوا ما قاله الإمام.. وكما قلنا فهي مأخوذة من ثاب أي رجع.. لأن الإنسان عندما يعمل صالحا يرجع عليه عمله الصالح بالخير.. فلا تعتقد أن العمل الصالح يخرج منك ولا يعود.. ولكنه لابد أن يعود عليك بالخير.
قوله تعالى: {لمثوبة من عند الله خير}.. انظر إلى المثوبة التي تأتي من عند الله.. إذا كان الثواب يأتيك من عند من صنعه جميلا مزركشا وله ألوان مبهجة.. إذا كان هذا ما صنعه لك بشر فما بالك بالثواب الذي يأتيك من عند الله. إنه قمة الجمال. فالله هو القادر على أن يرد الثواب بقدراته سبحانه فيكون الرد عاليا وعاليا جدا، بحيث يضاعف الثواب مرات ومرات.
على أننا لابد أن نتنبه إلى قول الله تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا} قلنا معنى اتقوا أنهم جعلوا بينهم وبين صفات الجلال في الله وقاية.. ولذلك قلنا إن بعض الناس يتساءل.. كيف يقول الله تبارك وتعالى: {اتقوا الله}.. ويقول جل جلاله: {اتقوا النار}.. نقول إن معنى اتقوا الله أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية: {واتقوا النار}.. أي اجعلوا بينكم وبين عذاب النار وقاية.. لأن النار من متعلقات صفات الجلال.. لذلك فإن قوله: {اتقوا الله}.. تساوي:"اتقوا النار".. والحق تبارك وتعالى حينما قال: {اتقوا} أطلقها عامة.. والحذف هنا المراد به التعميم.. والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن السحرة لو آمنوا بأن تعلم السحر فتنة تؤدي إلى الكفر.. واتقوا الله وخافوا عذابه في الآخرة لكان ذلك خيراً لهم.. لذلك قال جل جلاله: {لمثوبة من عند الله خير}..
وساعة تسمع كلمة خير تأتي إلى الذهن كلمة شر.. لأن الخير يقابله الشر.. ولكن في بعض الأحيان كلمة خير لا يقابلها شر. ولكن يقابلها خير أقل. وكلمة خير هي الوحيدة في اللغة العربية التي يساوي الاسم فيها أفعل التفضيل.. فأنت تقول هذا فاضل وهذا مفضول عليه.. كلمة خير اسم تفضيل فيقال ذلك خير من كذا.. أي واحد منهما يعطي أكثر من الآخر.. وكلمة خير إذا لم يأت مقابلها أي خير من كذا يكون مقابلها شر.. فإذا قلت فلان خير من فلان.. فكلاهما اشترك في الخير ولكن بدرجة مختلفة.. والخير هو ما يأتي لك بالنفع.. ولكن مقياس النفع يختلف باختلاف الناس.. واحد ينظر إلى النفع العاجل وآخر ينظر إلى النفع الآجل.. وفي ظاهر الأمر كل منهما أراد خيرا. إذن كل الناس يحبون الخير ولكن نظرتهم ومقاييسهم تختلف.. فمنهم من يريد متعة اليوم، ومنهم من يعمل لأجل متعة الغد.. والله تبارك وتعالى حين يأمرنا بالخير.. قد يكون الخير متعبا للجسد والنفس.. ولكن النهاية متاع أبدي في جنة الخلد.
إذن فالخير الحقيقي هو ما جاء به الشرع...
قوله تعالى: {لو كانوا يعلمون}.. الله ينفي عنهم العلم بينما في الآية السابقة أثبت لهم العلم في قوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق}.. نقول إن العلم الذي لا يخضع حركة الإنسان له فكأنه لم يعلم شيئا.. لأن هذا العلم سيكون حجة على صاحبه يوم القيامة وليته لم يعلمه.. واقرأ قول الشاعر: رزقوا وما رزقوا سماح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا. فكأن العلم لم يثبت لك لأنك لم تنتفع به.. والله سبحانه وتعالى يقول: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (من الآية 6 سورة الروم). {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا..} وهكذا نفى الله عن الناس العلم الحقيقي.. وأثبت لهم العلم الدنيوي الظاهر.. وقوله جل جلاله: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين "5 "} (سورة الجمعة). أي أنهم حملوا التوراة علما ولكنهم لم يحملوها منهجا وعملا.. وهؤلاء السحرة علموا أن من يمارس السحر يكفر.. ومع ذلك لم يعملوا بما عملوا.