البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَمَثُوبَةٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ خَيۡرٞۚ لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (103)

مثوبة : مفعلة من الثواب ، نقلت حركة الواو إلى الثاء ، ويقال مثوبة .

وكان قياسه الإعلال فتقول : مثابة ، ولكنهم صححوه كما صححوا في الأعلام مكورة ، ونظيرهما في الوزن من الصحيح : مقبره ومقبره .

{ ولو أنهم آمنوا واتقوا } : قد تقدّم الكلام في لو وأقسامها ، وهي هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، ويأتي الكلام على جوابها إن شاء الله .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون قوله : { ولو أنهم آمنوا } تمنياً لإيمانهم ، على سبيل المجاز ، عن إرادة الله ، إيمانهم واختيارهم له ، كأنه قيل : وليتهم آمنوا ، ثم ابتدىء : { لمثوبة من عند الله خير } ، انتهى .

فعلى هذا لا يكون للجواب لازم ، لأنها قد تجاب إذا كانت للتمني بالفاء ، كما يجاب ليت .

إلا أن الزمخشري دس في كلامه هذا ، ويحرجه مذهبه الاعتزالي ، حيث جعل التمني كناية عن إرادة الله ، فيكون المعنى : إن الله أراد إيمانهم ، فلم يقع مراده ، وهذا هو عين مذهب الاعتزال ، والطائفة الذين سموا أنفسهم عدلية :

قالوا يريد ولا يكون مراده *** عدلوا ولكن عن طريق المعرفه

وأنهم آمنوا ، يتقدّر بمصدر كأنه قيل : ولو إيمانهم ، وهو مرفوع .

فقال سيبويه : هو مرفوع بالابتداء ، أي ولو إيمانهم ثابت .

وقال المبرد : هو مرفوع على الفاعلية ، أي ولو ثبت إيمانهم .

ففي كل من المذهبين حذف للمسند ، وإبقاء المسند إليه .

والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو ، والضمير في أنهم لليهود ، أو الذين يعلمون السحر ، قولان .

والإيمان والتقوى : الإيمان التام ، والتقوى الجامعة لضروبها ، أو الإيمان بمحمد وبما جاء به ، وتقوى الكفر والسحر ، قولان متقاربان .

{ لمثوبة } : اللام لام الابتداء ، لا الواقعة في جواب لو ، وجواب لو محذوف لفهم المعنى ، أي لا ثيبوا ، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي ، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم ، وترتبه عليهما ، هذا قول الأخفش ، أعني أن الجواب محذوف .

وقيل : اللام هي الواقعة في جواب لو ، والجواب : هو قوله : { لمثوبة } ، أي الجملة الإسمية .

والأول اختيار الراغب ، والثاني اختيار الزمخشري .

قال : أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في جواب لو ، لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في : سلام عليكم لذلك ، انتهى كلامه .

ومختاره غير مختار ، لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً للو ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه .

ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل ، وليس مثل سلام عليكم ، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب .

ووجه من أجاز ذلك قوله : بأن مثوبة مصدر يقع للماضي والاستقبال ، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي .

وقد تكلمنا على هذه المسألة في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، بأشبع من هذا .

وقرأ الجمهور : لمثوبة بضم الثاء ، كالمشورة .

وقرأ قتادة وأبو السمال وعبد الله بن بريدة : بسكون الثاء ، كمشورة .

ومعنى قوله : لمثوبة ، أي لثواب ، وهو الجزاء والأجر على الإيمان والتقوى بأنواع الإحسان .

وقيل : لمثوبة : لرجعة إلى الله خير .

{ من عند الله } : هذا الجار والمجرور في موضع الصفة ، أي كائنة من عند الله .

وهذا الوصف هو المسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة .

وفي وصف المثوبة بكونها من عندالله ، تفخيم وتعظيم لها ، ولمناسبة الإيمان والتقوى .

لذلك ، كان المعنى : أن الذي آمنتم به واتقيتم محارمه ، هو الذي ثوابكم منه على ذلك ، فهو المتكفل بذلك لكم .

واكتفى بالتنكير في ذلك ، إذ المعنى لشيء من الثواب .

قليلك لا يقال له قليل***

{ خير } خبر لقوله : لمثوبة ، وليس خير هنا أفعل تفضيل ، بل هي للتفضيل ، لا للأفضلية .

فهي كقوله : { أفمن يلقى في النار خير } ، { وخير مستقراً } .

فشركما لخيركما الفداء***

{ لو كانوا يعلمون } : جواب لو محذوف : التقدير : لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيراً ، ويعني سبب المثوبة ، وهو الإيمان والتقوى .

ولذلك قدّره بعضهم لآمنوا ، لأن من كان ذا علم وبصيرة ، لم يخف عليه الحق ، فهو يسارع إلى اتباعه ، ولا الباطل ، فهو يبالغ في اجتنابه .

ومفعول يعلمون محذوف اقتصاراً ، فالمعنى : لو كانوا من ذوي العلم ، أو اختصاراً ، فقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، وقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى .

وقيل : العلم هنا كناية عن العمل ، أي لو كانوا يعلمون بعلمهم ، ولما انتقت ثمرة العلم الذي هو العمل ، جعل العلم منتفياً .

/خ103