الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَمَثُوبَةٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ خَيۡرٞۚ لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (103)

قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } : " لو " هنا فيها قولان ، أحدُهما : أنها على بابِها من كوِنها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره ، وسيأتي الكلامُ في جوابها . وأجاز الزمخشري أن تكونَ للتمني أي : ليتهم آمنوا على سبيل المجازِ عن إرادةِ الله إيمانَهم واختيارَهم له ، فعلى هذا لا يَلْزَمُ أن يكونَ لها جوابٌ لأنها قد تُجابُ بالفاءِ حينئذٍ ، وفي كلامِه اعتزالٌ موضعُه غيرُ هذا الكتابِ .

و " أنهم آمنوا " مؤولٌ بمصدرٍ ، وهو في محلِّ رفعٍ ، واختُلِفَ في ذلك على قَولَيْن ، أحدُهما - وهو قولُ سيبويه - أنَّه في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ ، تقديرُه : ولو إيمانُهم ثابتٌ ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو ، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال ، كما شَذَّ نصبُ " غُدْوَةً " بعد " لَدُنْ " . وقيل : لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ " أَنَّ " ، وصَحَّح الشيخ هذا في سورة النساء ، وهذا يُشْبِهُ الخلافَ في " أنَّ " الواقعةِ بعد ظنَّ وأخواتِها ، وقد تقدَّم تحقيقُه والله أعلم . والثاني : - وهو قولُ المبرد - أنه في محلِّ رفعٍ بالفاعليةِ ، رافعُه محذوفٌ تقديرُه : ولو ثَبَتَ إيمانُهم ، لأنَّها لا يَليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه لا يُضْمَرُ بعدَها الفعلُ إلا مفسَّراً بفعلٍ مثلِه ، وهذا يُحْمَلُ على المبرد ، ولكلِّ من القولين دلائلُ ليس هذا موضعَها . والضميرُ في " أنهم " فيه قولان ، أحدُهما : عائدٌ على اليهودِ ، والثاني : على الذينَ يُعَلِّمون السحرَ .

قوله : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : أنها لامُ لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك ، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه ، وعلى هذا فجوابُ " لو " محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل / بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره : لأُثيبوا . والثاني : أنها جوابُ لو ، فإنَّ " لو " تجابُ بالجملةِ الاسميةِ . قال الزمخشري : " أُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ لو لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المُثُوبة واستقرارها ، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في " سلامٌ عليكم " وفي قوع جوابِ " لو " جملةً اسميةً نَظَرٌ يحتاجُ إلى دليلٍ غير مَحَلِّ النزاع . قال الشيخ : " لم يُعْهَدْ في كلامِ العربِ وقوعُ الجملةِ الابتدائيةِ جواباً لِلَوْ ، إنما جاءَ هذا المختلَفُ في تخريجِه ، ولا تَثْبُتُ القواعدُ الكليةُ بالمُحْتَمَلِ .

ولمَثُوبة فيها قولان أحدُهما : أنَّ وزنَها مَفْعُولَة والأصلُ مَثْوُوْبَة ، فثَقُلَتْ الضمةُ على الواوِ فَنُقِلَتْ إلى الساكنِ قبلها ، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أحدُهما مثل : مَقُولة ومَجُوزة ومَصُوْن ومَشُوْب ، وقد جاءَتْ مصادرُ على مَفْعُول كالمَعْقُول ، فهي مصدرٌ نَقَل ذلك الواحدي .

والثاني : أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين ، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء ، ويقال : " مَثْوَبة " بسكون الثاءِ وفتحِ الواو ، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال : " مَثُابة " كمَقامَة ، إلا أنهم صَحَّحُوها كما صَحَّحُوا في الأعلام مَكْوَزَة ، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة . ومعنى " لَمَثُوبة " أي : ثوابٌ وجزاءٌ في من الله . وقيل : لَرَجْعَةٌ إلى الله .

قوله : { مِّنْ عِندِ اللَّهِ } في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله . والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره . قال الشيخ : " وهذا الوصفُ هو المُسَوِّغُ لجوازِ الابتداءِ بالنكرةِ " قلت : ولا حاجةَ إلى هذا لأنَّ المُسَوِّغَ هنا شيء آخر وهو الاعتمادُ على لامِ الابتداءِ ، حتى لو قيل في الكلام : " لَمَثُوبة خيرٌ " من غيرِ وصفٍ لَصَحَّ . والتنكيرُ في " لَمَثُوبَةٌ " يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ - وإنْ قَلَّ - خَيرٌ ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ ، ونظيرُه : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .

وقوله " خيرٌ " خبرٌ لِمَثُوبَةٌ ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ ، كقوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً }

[ الفرقان : 24 ] { أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ } [ فصلت : 40 ] .

قوله : { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابُها محذوفٌ تقديرُه : لكان تحصيلُ المثوبةِ خيراً ، أي تحصيلُ أسبابِها من الإِيمانِ والتقوى ، وكذلك قَدَّرَه ، بعضُهم : لآمنوا . وفي مفعولِ " يَعْلَمُون " وجهان : أحدُهما : أنه محذوفٌ اقتصاراً أي : لو كانوا من ذوي العلمِ ، والثاني : أنه محذوفٌ اختصاراً ، تقديرُه : لو كانوا يَعْلمون التفضيلَ في ذلك ، أو يعلمونَ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى .