اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَمَثُوبَةٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ خَيۡرٞۚ لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (103)

قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } " لو " هنا فيها قولان :

أحدهما : أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، وسيأتي الكلام في جوابها ، وأجاز الزمخشري رحمه الله تعالى أن تكون للتمني أي : لَيْتَهُمْ آمنوا على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم ، واختيارهم له ، فعلى هذا لا يلزم أن يكون لها جواب ، لأنها قد تجاب بالفاء حينئذ ، وفي كلامه اعتزال .

و " أنهم آمنوا " مؤول بمصدر ، وهو في محل رفع ، [ وفيه قولان ]{[1639]} أحدهما وهو قول سيبويه : أنه في محلّ رفع بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره : ولو كان إيمانهم ثابت ، وشذّ وقوع الاسم بعد " لو " ، وإن كانت مختصة بالأفعال ، كما شذ نصب " غدوة " بعد " لدن " .

وقيل : لا يحتاج هذا المبتدأ إلى خبر لجريان لفظ المسند والمسند إليه في صلة " أنَّ " .

وصحح أبو حَيَّان هذا في سورة " النساء " وهذا يشبه الخلاف في " أن " الواقعة بعد " ظنّ وأخواتها " ، وتقدم تحقيقه .

والثاني : وهو قول المبرد أنه في محلّ رفع بالفاعلية ، رافعه محذوف تقديره : ولو ثبت إيمانهم ؛ لأنها لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وقد ردّ بعضهم هذا بأنه لا يضمر بعدها الفعل إلا مفسَّراً بفعل مثله ، ودليل كلا القولين مذكور في كتب النحو . والضمير في " أنهم " فيه قولان :

أحدهما : عائد على اليهود ،

والثاني : على الذين يعلمون [ الناس ]{[1640]} السحر .

قال ابن الخطيب{[1641]} : إنَّ الله تعالى لما قال : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } [ البقرة : 101 ] ثم وصفهم بأنهم

{ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } ، وأنهم تمسّكوا بالسحر قال بعده : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } يعني بما نبذوه من كتاب الله .

فإن حملت ذلك على القرآن جاز ، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز ، وإن حملته على الأمرين جاز ، والمراد بالتقوى الاحتراز عن فعل المنهيات ، وترك المأمورات .

قوله تعالى : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ } .

في هذه اللام قولان :

أحدهما : أنها لام الابتداء ، وأن ما بعدها استئناف إخبار بذلك ، وليس متعلقاً بإيمانهم وتقواهم ، ولا مترتباً عليه ، وعلى هذا فجواب " لو " محذوف إذا قيل بأنها ليست للتمني ، أو قيل بأنها للتمني ، ويكون لها جواب تقديره : لأثيبوا .

والثاني : أنها جواب " لو " ، فإن " لو " تجاب بالجملة الاسمية .

قال الزمخشري{[1642]} رحمه الله تعالى : أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب " لو " لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المَثُوبَةِ واستقرارها ، كما عَدَلَ عن النصب إلى الرفع في { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الأنعام : 54 ] لذلك . [ وفي ] وقوع جواب " لو " جملة اسمية نظر يحتاج إلى دليل غير مَحلّ النزاع .

قال أبو حيان{[1643]} رحمه الله تعالى : لم يعهد في كلام العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً ل " لو " ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه ، ولا تَثْبُت القواعد الكلية بالمحتمل .

والمثوبة فيها قولان :

أحدهما : أن وزنها " فعولة " ، والأصل مَثْوُوبَة ، فَثَقُلَت الضَّمة على " الواو " ، فنقلت إلى الساكن قبلها ، فالتقى ساكنان فحذف أحدهما مثل : مَقُولة ومجوزة ومصونة ومشوبة وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول ، فهي مصدر نقل ذلك الواحدي .

والثاني : أنها " مَفْعُلَة " من الثواب بضم العين ، وإنما نقلت الضّمّة إلى الثاء ، ويقال : " مَثْوبَة " بسكون الثاء وفتح الواو ، وكان من حَقّها الإعلال فيقال : " مثابة " ك " مقامة " ، إلا أنهم صححوها كما صححوا في الإعلال " مَكْوَزَة " ، وبذلك قرأ أبو السمال{[1644]} وقتادة كمشورة . ومعنى " لمثوبة " أي : ثواب وجزاء من الله .

وقيل : لرجعة إلى الله تعالى خير .

قوله : { مِنْ عِندِ اللهِ } في محلّ رفع صفة " لمثوبة " ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : لمثوبة كائنة من عند الله تعالى .

والعندية هنا مجاز تقدم في نظائره .

قال أبو حيان : وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الابتداء بالنكرة .

قلت : ولا حاجة إلى هذا ؛ لأن المسوغ هنا شيء آخر ، وهو الاعتماد على لام الابتداء ، حتى لو قيل في الكلام : { لَمَثُوبَةٌ خَيْرٌ } من غير وصف لصح .

والتنكير في " لمثوبة " يفيد أن شيئاً من الثواب وإن قلّ خير ، فلذلك لا يقال له قليل ، ونظيره : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .

وقوله : " خَيْرٌ " خبرٌ " لِمَثُوبَة " ، وليست هنا بمعنى " أفعل " التفضيل ، بل هي لبيان أنها فاضلة ، كقوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً }

[ الفرقان : 24 ] { أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ } [ فصلت : 40 ] .

قوله تعالى : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابها محذوف تقديره : لكان تحصيل المثوبة خيراً ، أي : تحصيل أسبابها من الإيمان والتقوى ، وكذلك قَدّره بعضهم : لآمنوا .

وفي مفعول " يعلمون " وجهان :

أحدهما : أنه محذوف اقتصاراً أي : لو كانوا من ذوي العلم .

والثاني : أنه محذوف اختصاراً تقديره : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، أو يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى .


[1639]:- في ب: واختلف في ذلك على قولين.
[1640]:- سقط في ب.
[1641]:- ينظر الفخر الرازي: 3/202.
[1642]:- ينظر الكشاف: 1/174.
[1643]:- ينظر البحر المحيط: 1/504.
[1644]:- وقرأ بها ابن بريدة. انظر الشواذ: 16، والمحرر الوجيز: 1/719، والبحر المحيط: 1/504، والدر المصون: 1/331.