ثم يرسم القرآن الكريم بعد ذلك صورة واضحة لأصحاب القلوب المريضة ، والنفوس الضعيفة ، ويحكى جانبا من أقوالهم الفاسدة ، ودعاواهم الكاذبة فيقول : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ . . . عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
وقوله - سبحانه - : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله . . . } بيان لحال قوم ضعف إيمانهم ، واضطراب يقينهم ، بعد بيان حال المؤمنين الصادقين فى قوله : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين } قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله . . . } قال مجاهد : نزلت فى ناس من المنافقين بمكة ، كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك ، وقال عكرمة : كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج إلى در ، فقُتل بعضهم .
والمعنى : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ } بلسانه دون أن يواطئ هذا القول قلبه { آمَنَّا بالله } .
وقوله { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } بيان لحال هذا البعض من الناس عندما تنزل بهم المصائب والنكبات .
أى : فإذا أوذى هذا البعض - بعد قوله آمنا بالله - من أجل هذا القول ومن أجل تركه الدين الباطل ، ودخوله فى الدين الحق { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس } له أى جعل عذابهم له ، وإيذاءهم إياه { كَعَذَابِ الله } أى بمنزلة عذاب الله فى الشدة والألم ، فيترتب على ذلك أن يتزلزل إيمانه ، ويضعف يقينه ، بل ربما رجع إلى الكفر بعد الإِيمان .
وفى جعل هذا البعض { فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } دليل واضح على ضعف إيمانه ، وفساد تفكيره ، لأن عذابا لناس له دافع ، أما اعذاب الله فلا دافع له ، ولأن عذاب الناس لا يترتب عليه ثواب عظيم ، أما عذاب الله فهو بسبب غضب الله - سبحانه - على من عصاه ، ولأن عذاب الناس معروف أمده ونهايته أما عذاب الله فلا يعرف أحد مداه أو نهايته .
ثم بين - سبحانه - حال هذا الفريق إذا ما مَنَّ الله - تعالى - على المؤمنين الصادقين بنصر ، فقال : { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } .
والضمير فى قوله : { لَيَقُولُنَّ } بضم اللام يعود إلى { مَن } فى قوله : { مَن يِقُولُ } . باعتبار معناها ، كما أن إفراد الضمائر العائدة إليها باعتبار لفظها ، أى : هكذا حال ضعاف الإِيمان ، عند الشدائد يساوون عذاب الناس بعذاب الله ، ولا يثبتون على إيمانهم أما إذا جاءكم النصر - أيها الرسول الكريم - فإن هؤلاء الضعاف فى إيمانهم ، يقولون بكل ثقة وتأكيد : إنا كنا معكم مشايعين ومؤيدين ، ونحن إنما أُكرهنا على ما قلنا ، وما دام الأمر كذلك فأشركوننا معكم فيما ترتب على النصر من مغانم وخيرات .
وقوله - سبحانه - : { أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين } رد عليهم فى دعواهم الإِيمان ، وفى قولهم للمؤمنين : { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } والاستفهام لإِنكار ما زعموه ، ولتقدير علم الله - تعالى - الشامل للسر والعلانية .
أى : إن الله - تعالى - عالم بما فى صدور العالمين جميعا من خير وشر ، وإيمان وكفر .
وإن هؤلاء الذين يقولون آمنا ، ليس الله - تعالى - فى حاجة إلى قولهم ، فهو - سبحانه - يعلم السر وأَخفى
ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء ، ثم الادعاء العريض عند الرخاء . يرسمها في كلمات معدودات ، صورة واضحة الملامح بارزة السمات :
( ومن الناس من يقول : آمنا بالله . فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن : إنا كنا معكم . أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ? وليعلمن الله الذين آمنوا ، وليعلمن المنافقين ) . .
ذلك النموذج من الناس ، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل ، هينة المؤونة ، لا تكلف إلا نطقها باللسان ، ( فإذا أوذي في الله )بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى( جعل فتنة الناس كعذاب الله )فاستقبلها في جزع ، واختلت في نفسه القيم ، واهتزت في ضميره العقيدة ؛ وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه ، حتى عذاب الله ؛ وقال في نفسه : ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء ، فعلام أصبر على الإيمان ، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب ? وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر ، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه .
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة .
( ولئن جاء نصر من ربك ليقولن : إنا كنا معكم ) !
إنا كنا معكم . . وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي ، وسوء التصوير وخطأ التقدير . ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة ، وينتفش المنزوون المتخاذلون ، ويستأسد الضعفاء المهزومون ، فيقولون : إنا كنا معكم !
( أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ? ) . .
أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع ، ومن إيمان أو نفاق ? فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموهون ?
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يِقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مّن رّبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن الناس من يقول : أقررنا بالله فوحّدناه ، فإذا آذاه المشركون في إقراره بالله ، جعل فتنة الناس إياه في الدنيا ، كعذاب الله في الاَخرة ، فارتدّ عن إيمانه بالله ، راجعا على الكفر به وَلَئِنْ جاءَ نَصْر مِنْ رَبّكَ يا محمد أهل الإيمان به لَيَقُولُنّ هؤلاء المرتدّون عن إيمانهم ، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله : إنّا كُنّا أيها المؤمنون مَعَكُمْ ننصركم على أعدائكم ، كذبا وإفكا . يقول الله : أوَ لَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ أيها القوم من كلّ أحد بمَا في صُدُور العَالمينَ جميع خلقه ، القائلين آمنا بالله وغَيرِهم ، فإذا أُوذِي في الله ارتد عن دين الله فكيف يخادع من كان لا يخفى عليه خافية ، ولا يستتر عنه سرا ولا علانية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثن عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ ، فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ قال : فتنته أن يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ . . . إلى قوله وَلَيَعْلَمَنّ المُنافِقِينَ قال : أناس يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا ، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الاَخرة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ . . . الاَية ، نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين ، رجعوا إلى الكفر مخافة من يؤذيهم ، وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قول الله فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ قال : هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر ، وجعل فتنة الناس كعذاب الله .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من أهل الإيمان كانوا بمكة ، فخرجوا مهاجرين ، فأدركوا وأُخذوا فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم . ذكر الخبر بذلك :
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بإسلامهم ، فأخرجهم المشركون ، يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم وقتل بعض ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت : إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ . . . إلى آخر الاَية ، قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الاَية أن لا عذر لهم ، فخرجوا ، فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم هذه الاَية : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ ، فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ . . . إلى آخر الاَية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا وأيسوا من كلّ خير ، ثم نزلت فيهم : ثُمّ إنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ، ثُمّ جاهَدُوا وَصَبرُوا ، إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فكتبوا إليهم بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، حتى نجا من نجا ، وقُتل من قُتل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ ، فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ . . . إلى قوله وَلَيَعْلَمَنّ المُنافِقِينَ قال : هذه الاَيات أنزلت فِي القوم الذين ردّهم المشركون إلى مكة ، وهذه الاَيات العشر مدنية إلى ههنا وسائرها مكيّ .