التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} (16)

ثم صور - سبحانه - أحوال الناس فى هذا اليوم العصيب ، فقال : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ . . . }

وهذه الجملة الكريمة بدل من قوله { يَوْمَ التلاق } أى : يلقى - سبحانه - على من يشاء من عباده ، لكى ينذر الناس من أهوال ذلك اليوم الذى يتلقى فيه الخلائق ، والذى يظهرون فيه ظهورا تاما ، دون أن يخفى منهم شئ على الله - تعالى - .

والله - تعالى - لا يخفى عليه شئ من أمرهم لا فى هذا اليوم ولا فى غيره ، ولكنه - سبحانه - ذكر بروزهم وعدم خفائهم عليه فى هذا اليوم ، لأنهم - لجهلهم - كانوا يتوهمون فى الدنيا أنهم يستطيعون التستر عنه ، كما أشار - سبحانه - إلى ذلك فى قوله - تعالى -

{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ورحم الله صاحب الشكاف : فقد قال : قوله : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } أى : ظاهرون لا يسترهم شئ من جبل أو أكمة أو بناء ، لأن الأرض بارزة قاع صفصف ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم عراة مكشوفون ، كما جاء فى الحديث : " يحشرون عراة حفاة غرلا " { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ } بيان وتقرير لبروزهم ، والله - تعالى - لا يخفى عليه منهم شئ برزوا أم لم يبرزوا ، فما معناه ؟

قلت : معناه أنهم كانوا يتوهمون فى الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب ، أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم ، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه قال - تعالى - : { ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ . . } وقوله - تعالى - : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } السائل والمجيب هو الله - تعالى - .

أى : ينادى الله - تعالى - فى المخلوقات فى ذلك اليوم ، لمن الملك فى هذا اليوم الهائل الشديد ؟ ثم يجيب - سبحانه - على هذا السؤال بقوله : { لِلَّهِ الواحد القهار } .

قال القرطبى ما ملخصه : قال الحسن : هو السائل - تعالى - وهو المجيب ، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه ، فيجيب نفسه سبحانه فيقول : { لِلَّهِ الواحد القهار } .

فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا ، ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا .

ثم قال : والقول الأول ظاهر جدا ، لأن المقصود إظهار انفراده - تعالى - بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين ، وانتساب المنتسبين ، إذ قد ذهب كل ملك وملكه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} (16)

ثم هو اليوم الذي يبرزون فيه بلا ساتر ولا واق ولا تزييف ولا خداع :

( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ) . .

والله لا يخفى عليه منهم شيء في كل وقت وفي كل حال . ولكنهم في غير هذا اليوم قد يحسبون أنهم مستورون ، وأن أعمالهم وحركاتهم خافية ، أما اليوم فيحسون أنهم مكشوفون ، ويعلمون أنهم مفضوحون ؛ ويقفون عارين من كل ساتر حتى ستار الأوهام !

ويومئذ يتضاءل المتكبرون ، وينزوي المتجبرون ، ويقف الوجود كله خاشعاً ، والعباد كلهم خضعاً . ويتفرد مالك الملك الواحد القهار بالسطان . وهو سبحانه متفرد به في كل آن . فأما في هذا اليوم فينكشف هذا للعيان ، بعد انكشافه للجنان . ويعلم هذا كل منكر ويستشعره كل متكبر . وتصمت كل نأمة وتسكن كل حركة . وينطلق صوت جليل رهيب يسأل ويجيب ؛ فما في الوجود كله يومئذ من سائل غيره ولا مجيب :

( لمن الملك اليوم ? ) . . ( لله الواحد القهار ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} (16)

وقوله : يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفَى على اللّهِ منْهُمْ شَيْءٌ يعني بقوله يَوْمَ هُمْ بارزُونَ يعني المنذرين الذين أرسل الله إليهم رسله لينذروهم وهم ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر ، ولا يستر بعضهم عن بعض ساتر ، ولكنهم بقاعٍ صفصف لا أَمْتَ فيه ولا عوج . و «هم » من قوله : يَوْمَ هُمْ في موضع رفع بما بعده ، كقول القائل : فعلت ذلك يوم الحجاج أمير .

واختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم تخفض هم بيوم وقد أضيف إليه ؟ فقال بعض نحويي البصرة : أضاف يوم إلى هم في المعنى ، فلذلك لا ينوّن اليوم ، كما قال : يَوْمَ هُمْ عَلى النّار يُفْتَنُونَ وقال : هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ومعناه : هذا يوم فتنتهم ، ولكن لما ابتدأ بالاسم ، وبنى عليه لم يقدر على جرّه ، وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة ، وهذا إنما يكون إذا كان اليوم في معنى إذ ، وإلا فهو قبيح إلا ترى أنك تقول : ليتك زمن زيدٌ أمير : أي إذ زيد أمير ، ولو قلت : ألقاك زمن زيد أمير ، لم يحسن . وقال غيره : معنى ذلك : أن الأوقات جعلت بمعنى إذ وإذا ، فلذلك بقيت عل نصبها في الرفع والخفض والنصب ، فقال : وَمِنْ خِزْيِ يَوْمَئِذٍ فنصبوا ، والموضع خفض ، وذلك دليل على أنه جعل موضع الأداة ، ويجوز أن يعرب بوجوه الإعراب ، لأنه ظهر ظهور الأسماء ألا ترى أنه لا يعود عليه العائد كما يعود على الأسماء ، فإن عاد العائد نوّن وأعرب ولم يضف ، فقيل : أعجبني يوم فيه تقول ، لما أن خرج من معنى الأداة ، وعاد عليه الذكر صار اسما صحيحا . وقال : وجائز في إذ أن تقول : أتيتك إذ تقوم ، كما تقول : أتيتك يوم يجلس القاضي ، فيكون زمنا معلوما ، فأما أتيتك يوم تقوم فلا مؤنة فيه وهو جائز عند جميعهم ، وقال : وهذه التي تسمى إضافة غير محضة .

والصواب من القول عندي في ذلك ، أن نصب يوم وسائر الأزمنة في مثل هذا الموضع نظير نصب الأدوات لوقوعها مواقعها ، وإذا أعربت بوجوه الإعراب ، فلأنها ظهرت ظهور الأسماء ، فعوملت معاملتها .

وقوله : لا يَخْفَى على اللّهِ مِنْهُمْ أي ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا شَيْءٌ . وكان قتادة يقول في ذلك ما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لاَ يَخْفَى على الله مِنْهُمْ شَيْءٌ ولكنهم برزوا له يوم القيامة ، فلا يستترون بجبل ولا مَدَر .

وقوله : لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ يعني بذلك : يقول الربّ : لمن الملك اليوم وترك ذكر «يقول » استغناء بدلالة الكلام عليه . وقوله : لِلّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ وقد ذكرنا الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل ومعنى الكلام : يقول الربّ : لمن السلطان اليوم ؟ وذلك يوم القيامة ، فيجيب نفسه فيقول : لِلّهِ الوَاحِدِ الذي لا مثل له ولا شبيه القَهّارِ لكلّ شيء سواه بقدرته ، الغالب بعزّته .