ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين الذين يحرصون على العمل الصالح فقال - تعالى - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
أي : من عمل عملا صالحا ، بأن يكون خالصا لوجه الله - تعالى - وموافقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء أكان هذا العامل المؤمن ذكرا أم أنثى ، فلنحيينه حياة طيبة ، يظفر معها بصلاح البال ، وسعادة الحال .
وقال - سبحانه - : { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } ، مع أن لفظ " مَنْ " في قوله : { من عمل } ، يتناول الذكور والإِناث ؛ للتنصيص على النوعين ، حتى يكون أغبط لهما ، ولدفع ما قد يتوهم من أن الخطاب للذكور وحدهم .
ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " مَن " متناول في نفسه للذكر والأنثى ، فما معنى تبيينه بهما ؟ قلت : هو مبهم صالح على الإِطلاق للنوعين ، إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور ، فقيل : { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } ، على التبيين ليعم الوعد النوعين جميعا .
وقيد - سبحانه - العامل بكونه مؤمنا فقال : { وهو مؤمن } ؛ لبيان أن العمل لا يكون مقبولا عند الله - تعالى - إلا إذا كان مبنيا على العقيدة الصحيحة ، وكان صاحبه يدين بدين الإِسلام ، وقد أوضح القرآن هذا المعنى فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } والمراد بالحياة الطيبة في قوله - تعالى - : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، الحياة الدنيوية التي يحياها المؤمن إلى أن ينقضي أجله .
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : هذا وعد من الله - تعالى - لمن عمل صالحا من ذكر أوأنثى ، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا . . والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روى عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال ، وعن علي بن أبى طالب أنه فسرها بالقناعة .
والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه " .
وقيل : المراد بالحياة الطيبة هنا : الحياة الأخروية ، وقد صدر الشيخ الآلوسي تفسيره بهذا الرأي فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، والمراد بالحياة الطيبة : التي تكون في الجنة ، إذ هناك حياة بلا موت ، وغنى بلا فقر ، وصحة بلا سقم ، وسعادة بلا شقاوة . . فعن الحسن : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .
وقال شريك : هي حياة تكون في البرزخ . . وقال غير واحد : هي في الدنيا .
ويبدو لنا أن تفسير الحياة الطيبة هنا بأنها الحياة الدنيوية أرجح ؛ لأن الحياة الأخروية جاء التصريح بها بعد ذلك في قوله - تعالى - : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
وبمناسبة العمل والجزاء ، يعقب بالقاعدة العامة فيهما :
( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فلنحيينه حياة طيبة ، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) . . فيقرر بذلك القواعد التالية :
أن الجنسين : الذكر والأنثى . متساويان في قاعدة العمل والجزاء ، وفي صلتهما بالله ، وفي جزائهما عند الله . ومع أن لفظ( من )حين يطلق يشمل الذكر والأنثى إلا أن النص يفصل : ( من ذكر أو أنثى )لزيادة تقرير هذه الحقيقة . وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى ، وضيق المجتمع بها ، واستياء من يبشر بمولدها ، وتواريه من القوم حزنا وغما وخجلا وعارا !
وأن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها . قاعدة الإيمان بالله ( وهو مؤمن ) فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء ، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته ، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعا ، وإلا فهي أنكاث . فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثا وغاية . فتجعل الخير أصيلا ثابتا يستند إلى أصل كبير . لا عارضا مزعزعا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل .
وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض . لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال . فقد تكون به ، وقد لا يكون معها . وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية : فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه . وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة ، وسكن البيوت ومودات القلوب . وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة . . وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل ، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله .
وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة .
وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا ، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات . فما أكرمه من جزاء !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.