التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

ثم فصل - سبحانه - الحديث عن موسى - عليه السلام - فذكر ما ألهمه لأمه عند ولادته . وما قالته امرأة فرعون له عند التقاط آل فرعون لموسى ، وما كانت عليه أم موسى من حيرة وقلق ، وما قالته لأخته ، وكيف رد الله - تعالى - بفضله وكرمه موسى إلى أمه . .

لنستمع إلى السورة الكريمة ، وهى تفصل هذه الأحداث ، بأسلوبها البديع المؤثر فتقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . . } .

قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما قال : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا } ابتدأ بذكر أوائل نعمه فى هذا الباب فقال : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } .

والوحى إلى أم موسى ، يجوز أن يكون عن طريق الإلهام ، كما فى قوله - تعالى - : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل . . } أو عن طريق المنام ، أو عن طريق إرسال ملك أخبرها بذلك .

قال الآلوسى : والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك ، ولا ينافى ذلك الإجماع على عدم نبوتها ، لما أن الملائكة - عليهم السلام - قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم .

والظاهر - أيضا - أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة . . وقيل : كان قبلها . . .

و { أَنْ } فى قوله { أَنْ أَرْضِعِيهِ } مفسرة ، لأن الوحى فيه معنى القول دون حروفه .

والخوف : حالة نفسية تعترى الإنسان ، فتجعله مضطرب المشاعر ، لتوقعه حصول أمر يكرهه .

والحزن : اكتئاب نفسى يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه ، كموت عزيز لديه . أو فقده لشىء يحبه .

وفى الكلام حذف يعرف من السياق ، والتقدير : وحملت أم موسى به فى الوقت الذى كان فرعون يذبح الأبناء ، ويستحيى النساء ، وأخفت حملها عن غيرها ، فلما وضعته اصابها ما أصابها من خوف وفزع على مصير ابنها ، وهنا ألهمناها بقدرتنا وإرادتنا . وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه فى خفاء وكتمان { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من فرعون وحاشيته أن يقتلوه كما قتلوا غيره من أبناء بنى إسرائيل .

{ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } أى : فى البحر والمراد به نهر النيل ، وسمى بحرا لاتساعه ، وإن كان الغالب إطلاق البحر على المياه غير العذبة .

{ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } أى : ولا تخافى عليه من حصول مكروه له ، ولا تحزنى لمفارقته لك ، فهو فى رعايتنا وحمايتنا ، ومن رعاه الله - تعالى - وحماه ، فلا خوف عليه ولا حزن .

وجملة { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } تعليل لنهى عن الخوف والحزن ، وتبشير لها بأن ابنها سيعود إليها ، وسيكون من رسل الله - عز وجل - .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما المراد بالخوفين - فى الآية - حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر ؟

قلت : أما الأول ، فالخوف عليه من القتل ، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته ، فينموا عليه . وأما الثانى : فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ، ومن الوقوع فى يد بعض العيون المبثوتة من قبل فرعون لى تطلب الولدان .

فإن قلت : ما الفرق بين الخوف والحزن ؟ قلت : الخوف ، غم يلحق الإنسان لشىء متوقع .

والحزن : غم يلحقه لشىء وقع ، فنهيت عنهما جميعا وأومنت بالوحى إليها ، ووعدت بما يلسيها ، ويمطئن قلبها ، ويملؤها غبطة وسرورا ، وهو رده إليها . وجعله من المرسلين .

وهكذا نجد الآية الكريمة قد اشتملت على أبلغ الأساليب وأبدعها ، فى بيان قدرة الله - تعالى - ورعايته لمن يريد رعايته .

قالوا : مدح الأصمعى امرأة لإنشادها شعرا حسنا ، فقرأت هذه الآية الكريمة قم قالت له : أبعد هذه الآية فصاحة ، لقد اشتملت على أمرين وهما { أَرْضِعِيهِ } { فَأَلْقِيهِ } ونهيين وهما { لاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } وخبرين { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } وبشارتين فى ضمن الخبرين وهما : الرد والجعل المذكوران .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

ثم تبدأ القصة . ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار :

لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة ؛ ولد والخطر محدق به ، والموت يتلفت عليه ، والشفرة مشرعة على عنقه ، تهم أن تحتز رأسه . .

وها هي ذي أمه حائرة به ، خائفة عليه ، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين ، وترجف أن تتناول عنقه السكين ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة ، عاجزة عن حمايته ، عاجزة عن إخفائه ، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه ؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة . . ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة .

هنا تتدخل يد القدرة ، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة ، وتلقي في روعها كيف تعمل ، وتوحي إليها بالتصرف :

( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني ) . .

يا لله ! يا للقدرة ! يا أم موسى أرضعيه . فإذا خفت عليه وهو في حضنك . وهو في رعايتك . إذا خفت عليه وفي فمه ثديك ، وهو تحت عينيك . إذا خفت عليه ( فألقيه في اليم ) ! !

( ولا تخافي ولا تحزني )إنه هنا . . في اليم . . في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها ، اليد التي لا خوف معها . اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها . اليد التي تجعل النار بردا وسلاما ، وتجعل البحر ملجأ ومناما . اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب .

( إنا رادوه إليك ) . . فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده . . ( وجاعلوه من المرسلين ) . . وتلك بشارة الغد ، ووعد الله أصدق القائلين .

هذا هو المشهد الأول في القصة . مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح . وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردا وسلاما . ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى ، ولا كيف نفذته . إنما يسدل الستار عليها ، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني :