التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } .

الولوج في الأصل : الدخول ، والإيلاج الإدخال . يقال : ولج فلان منزله إذا دخله ، فهو يلجه ولجا وولوجا .

وأولجته أنا إذا أدخلته ، ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب .

أي أنت يا الله يا مالك الملك . أنت الذى بقدرتك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار في الليل فيقصر النهار ويزيد الليل ، وأنت وحدك الذى بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويداً رويداً في أعقاب النهار ، وتأتي بالنهار شيئاً فشيئاً فى أعقاب الليل ، وفى كل ذلك دليل على سعة قدرتك ، وواسع رحمتك . وتذكير واعتبار لأولى الألباب .

ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } .

قال الفخر الرازي : ذكر المفسرون فيه وجوها .

أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح .

والثاني : يخرج الحيوان - وهو حي - من النطفة - وهي ميتة - ، والدجاجة - وهي حية - من البيضة أو العكس .

والثالث : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس : ثم قال : والكلمة محتملة للكل : أما الكفر والإيمان فقال - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يريد كان كافرا فهديناه ، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال : { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وفى الحق : إن المتدبر فى هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادراً هو الله الواحد القهار .

ثم ختم - سبحانه - مظاهر قدرته ورحمته بقوله { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والرزق - كما يقول الراغب - يقال للعطاء الجارى تارة دنيوا كان أو أخرويا . وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال : أعطى السلطان رزق الجند ، ورزقت علما ، قال - تعالى - : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت } أى : من المال والجاه والعلم " .

أي أنت يا الله يا مالك الملك ، أنت وحدك الذى ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب ، أي رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم ، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك ، بل أنت المعطى بدون محاسب ، وبدون محاسبة من تعطيه ، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر .

ومن كانت هذه صفاته ، وتلك بعض مظاهر قدرته : من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل ، وإخراج الحى من الميت والميت من الحي ، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين }

قال ابن كثير : روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الأعظم الذى إذا دُعي به أجاب في هذه الآية :

{ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } " .

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق - عز وجل - بما هو أهله ، من قدرة تامة وسلطان نافذ ، ورحمة واسعة ، وهذا الوصف من شانه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له - سبحانه - وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

18

وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :

( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ؛ وترزق من تشاء بغير حساب ) . .

والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى القى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .

وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئا فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة ؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير !

كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة ! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل . وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير !

حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري ؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر ؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير

ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا ، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال :

( وترزق من تشاء بغير حساب ) . .

إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .