ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر فضله عليه . وتكريمه له حيث خصه بأمور تتعلق بالنكاح لم يخص بها أحدا غيره . فقال - تعالى - : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ . . . . على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } .
والمراد بالأجور فى قوله - سبحانه - : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ . . . } المهور التى دفعها صلى الله عليه وسلم لأزاوجه .
قال ابن كثير : يقول - تعالى - مخاطبا - نبيه - صلوات الله وسلامه عليه - بأن قد أحل له من النساء أزواجه اللائى أعطاهن مهورهن ، وهى الأجور ها هنا ، كما قاله مجاهد وغير واحد .
وقد كان مهره صلى الله عليه وسلم لنسائه : اثنتى عشرة أوقية ونصف أوقية . فالجمعي خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبى سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشى - رحمه الله - بأربعمائة دينار ، وإلا صفية بنت حيى فإنه اصطفاها من سبى خيبر ، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها . وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية ، أدى عنها كتابتها إلى ثبات بن قيس وتزوجها .
وفى قوله : { آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } إشارة إلى أن إعطاء المهر كاملا للمراة دون إبقاء شئ منه ، هو الأكمل والأفضل ، وأن تأخير شئ منه إنما هو مستحدث ، لم يكن معروفا عند السلف الصالح .
وأُطْلِق على المهر أجْرٌ لمقابلته الاستمتاع الدائم بما يحل الاستمتاع به من الزوجة ، كما يقابل الأجر بالمنفعة .
وقوله : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ } بيان لنوع آخر مما أحله الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : يأيها النبى إنا أحللنا لك - بفضلنا - على سبيل التكريم والتشريف لك ، الاستمتاع بأزواجك الكائنات عندك ، واللاتى أعطيتهن مهورهن - كعائشة وحفصة وغيرهما - ، لأنهن قد اخترنك على الحياة الدنيا وزينتها .
كما أحللنا لك التمتع بما ملكت يمينك من النساء اللائى دخلن فى ملكك عن طريق الغنيمة فى الحرب ، كصفية بنت حيى بن أخطب ، وجويرية بنت الحارث .
ثم بين - سبحانه - نوعا ثالثا أحله - سبحانه - له فقال : { عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } .
أى : وأحللنا لك - أيضا - الزواج بالنساء اللائى تربطك بهن قرابة من جهة الأب ، أو قرابة من جهة الأم .
وقوله { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } إشارة إلى ما هو أفضل ، وللإِيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر .
والمراد بالمعية هنا . الاشتراك فى الهجرة . لا المصاحبة فيها ، لما فى قوله - تعالى - حكاية عن ملكة سبأ : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } .
قال بعض العلماء : وقد جاء فى الآية الكريمة عدة قيود ، ما أريد بواحد منها غلى التنبيه على الحالة الكريمة الفاضلة .
منها : وصف النبى صلى الله عليه وسلم باللاتى آتى أجورهن ، فإنه تنبيه على الحالة الكاملة ، فإن الأكمل إيتاء المهر كاملا دون أن يتأخر منه شئ .
ومنها : أن تخصيص المملوكات بأن يكن من الفئ ، فإن المملوكة إذا كانت غنيمة من أهل الحرب كانت أحل وأطيب مما يشترى من الجلب ، لأن المملوكة عن طريق الغنيمة تكون معروفة الحالة والنشأة .
ومنها : قيد الهجرة فى قوله : { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } ، ولا شك أن من هاجرت مع النبى صلى الله عليه وسلم أولى بشرف زوجة النبى صلى الله عليه وسلم ممن عداها .
ثم بين - سبحانه - نوعا رابعا من النساء ، أحله لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } . والجملة الكريمة معطوفة على مفعول { أَحْلَلْنَا } .
وقد اشتملت هذه الجملة على شرطين ، الثانى منهما قيد للأول ، لن هبتها نفسها له صلى الله عليه وسلم لا توجب حلها له إلا بقبوله الزواج منها .
وقوله { يَسْتَنكِحَهَا } بمعنى ينكحها . يقال : نكح واستنكح ، بمعنى عجل واستعجل : ويجوز أن يكون بمعنى طلب النكاح .
وقوله : { خَالِصَةً } منصوب على الحال من فاعل { وَهَبَتْ } أى : حال كونها خالصة لك دون غيرك . أو نعت لمصدر مقدر . أى : هبة خالصة . . .
والمعنى وأحللنا لك كذلك امرأة مؤمنة ، إن ملكتك نفسها بدون نفسها بدون مهر وإن أنت قبلت ذلك عن طيب خاطر منك ، وهذا الإِحلال إنما هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين ، لأن غيرك من المؤمنين لا تحل لهم من وهبت نفسها لواحد منهم إلا بولى ومهر .
وقد ذكروا ممن وهبن أنفسهن له صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم ، وأم شريك بنت جابر ، وليلى بنت الحطيم . .
وقد اختلف العلماء فى كونه صلى الله عليه وسلم قد تزوج بواحدة من هؤلاء الواهبات أنفسهن له أم لا .
والأرجح أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بواحدة منهن ، وإنما زوجهن لغيره . ويشهد لذلك ما رواه الشيخان " عن سهل بن سعد الساعدى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله ، إنى قد وهبت نفسى لك . فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عندك من شئ تصدقها إياه ؟ فقال : ما عندى إلا إزارى هذا . فقال صلى الله عليه وسلم : إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئا . فقال : لا أجد شيئا : فقال : التمس ولو خاتما من حديد ، فقام الرجل فلم يجد شيئا . فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : هل معك من القرآن شئ ؟ قال نعم . سورة كذا وسورة كذا - لسور يسميها - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : زوجتكها بما معك من القرآن " .
وإلى هنا يتضح لنا أن المقصود بالإِحلال فى الآية الكريمة : الإِذن العام والتوسعة عليه صلى الله عليه وسلم فى الزواج من هذه الأصناف ، والإِباحة له فى ان يختار منهن من تقتضى الحكمة الزاوج منها ، واختصاصه صلى الله عليه وسلم بأمور تتعلق بالنكاح ، لا تحل لأحد سواه .
ولهذا قال - سبحانه - بعد ذلك : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } فإن هذه الجملة الكريمة معترضة ومقررة لمضمون ما قبلها ، من اختصاصه صلى الله عليه وسلم بأمور فى النكاح لا تحل لغيره ، كحل زواجه ممن تخبه نفسها بدون مهر ، إن قبل ذلك العرض منها .
أى : هذا الذى أحللناه لك - أيها الرسول الكريم - هو خاص بك ، أما بالنسبة لغيرك من المؤمنين فقد علمنا ما فرضناه عليهم فى حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه ، فلا يجوز لهم الإِخلال بها ، كما لا يجوز لهم الاقتداء بك فيما خصك الله - تعالى - به ، على سبيل التوسعة عليك ، والتكريم لك ، فهم لا يجوز لهم التزوج إلا بعقد وشهود ومهر ، كما لا يجوز لهم أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة .
وعلمنا - أيضا - ما فرضناه عليهم بالنسبة لما ملكت أيمانهم ، من كونهن ممن يجوز سبيه وحربه ، لا ممن لا يجوز سبيه ، أو كان له عهد مع المسلمين .
وقوله : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } متعلق بقوله : { أَحْلَلْنَا } وهو راجع إلى جميع ما ذكر ، فيكون المعنى :
أحللنا من آتيت أجورهن من النساء ، والمملوكات ، والأقارب ، والواهبة نفسها لك ، لندفع عنك الضيق والحرج ، ولتتفرغ لتبليغ ما أمرناك بتبليغه .
وقيل : إنه متعلق بخالصة ، أو بعاملها ، فيكون المعنى : خصصناك بنكاح من وهبت نفسها لك بدون مهر ، لكى لا يكون عليك حرج فى البحث عنه .
وترى بعضه أنه متعلق بمحذوف ، أى : بينا لك ما بينا من أحكام خاصة بك ، حتى تخرج من الحرج ، وحتى يكون ما تفعله هو بوحى منا وليس من عند نفسك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أى : وكان الله - تعالى - وما زال واسع المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين .
بعد ذلك يبين الله لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ما يحل له من النساء ، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته ، بعدما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعا : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) . .
وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء ، تزوج بكل منهن لمعنى خاص . عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر . وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة ، وسودة بنت زمعة ، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] تكريمهن ، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب ، إنما كان معنى التكريم لهن خالصا في هذا الزواج . وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها ، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى ، وعرفناه في قصتها . ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حيي بن أخطب . وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى ، توثيقا لعلاقته بالقبائل ، وتكريما لهما ، وقد أسلمتا بعدما نزل بأهلهما من الشدة .
وكن قد أصبحن ( أمهات المؤمنين )ونلن شرف القرب من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير . فكان صعبا على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد النساء . وقد نظر الله إليهن ، فاستثنى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من ذلك القيد ، وأحل له استبقاء نسائه جميعا في عصمته ، وجعلهن كلهن حلا له ، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحدا ، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى . فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن ، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه ، بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة . . وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات :
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ، وبنات عمك وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين ، قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم ، لكي لا يكون عليك حرج ، وكان الله غفورا رحيما . ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك . ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ، والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما . لا يحل لك النساء من بعد ، ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن - إلا ما ملكت يمينك - وكان الله على كل شيء رقيبا . .
ففي الآية يحل الله للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنواع النساء المذكورات فيها - ولو كن فوق الأربع - مما هو محرم على غيره . وهذه الأنواع هي : الأزواج اللواتي أمهرهن . وما ملكت يمينه إطلاقا من الفيء ، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن - إكراما للمهاجرات - وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي . إن أراد النبي نكاحها [ وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج ، والأرجح أنه زوج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين ] وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعا . فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم . ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه .