التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

ثم بين - سبحانه - أن كل نفس تتحمل نتائج أعمالها وحدها فقال : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } .

وقوله : { تَزِرُ } من الوزر بمعنى الحمل . يقال : فلان وزر هذا الشئ إذا حمله . وفعله من باب " وعد " ، وأكثر ما يكون استعمالاً فى حمل الآثم .

وقوله { وَازِرَةٌ } : صفة لموصوف محذوف . أى : ولا تحمل نفس آثمة ، إثم نفس أخرى ، وإنما كل نفس مسئولة وحدها عن أفعالها وأقوالها التى باشرتها ، أو تسببت فيها .

وقوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } مؤكد لضممون ما قبله ، من مسئولية كل نفس عن أفعالها .

وقوله : { مُثْقَلَةٌ } صفة لموصوف محذوف ، والمفعول محذوف - أيضاً - للعلم به .

وقوله { حِمْلِهَا } أى : ما تحمله من الذنوب والآثام ، إذ الحمل - بكسر الحاء - ما يحمله الإِنسان من أمتعة على ظهره أو رأسه أو كتفه .

والمعنى : لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، وإن تنطلب نفس مثقلة بالذنوب من نفس أخرى ، أن تحمل عنها شيئاً من ذنوبها التى أثقلتها ، لا تجد استجابة منها ، ولو كانت تلك النفس الأخرى من أقربائها وذوى رحمها .

قال - تعالى - : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً . . . } .

وقال - سبحانه - : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : ولا تزر نفس وزر أخرى ؟ قلت : لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها ، ولا وزر غيرها .

فإن قلت : كيف توفق بين هذا ، وبين قوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } قلت : تلك الآية فى الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلالهم لغيرهم ، مع أثقالهم ، وذلك كله أوزارهم ، ما فيها شئ من وزر غيرهم .

فإن قلت : فما الفرق بين معنى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } وبين معنى : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ . . } ؟

قلت : الأول فى الدلالة على عدل الله - تعالى - فى حكمه ، وأنه - تعالى - لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها .

والثانى : فى أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث . . وإن كان المستغاث به بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ . . فإن قلت : إلام أسند كان فى قوله { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ؟ قلت : إلى المدعو المفهوم من قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } .

فإن قلت : فلم ترك ذكر المدعو ؟ قلت : " ليعم ويشمل كل مدعو " .

وقوله - تعالى - : { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة } .

كلام مستأنف مسوق لبيان من هم أهل للاتعاظ والاستجابة للحق .

أى : أنت - أيها الرسول الكريم - إنما ينفع وعظك وإنذارك . أولئك العقلاء الذين يخشون ربهم - عز وجل - دون أن يروه ، أو يروا عذابه ، والذين يؤدون الصلاة فى مواقيتها بإخلاص وخشوع واطمئنان .

ثم حض - سبحانه - على تزكية النفوس وتطهيرها فقال : { وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير } أى : ومن تظهر من دنس الكفر والفسوق والعصيان . وحض نفسه بالإِيمان ، والعمل الصالح ، والتوبة النصوح ، فإن ثمرة تطهره إنما تعود إلى نفسه وحدها ، وإليها يرجع الأجر والثواب ، والله - تعالى - إليه وحده مصير العباد لا إلى غيره .

فالجملة الكريمة دعوة من الله - تعالى - للناس ، إلى تزيكة النفوس وتطهيرها من كل سوء ، بعد بيان أن كل نفس مسئولية وحدها عن نتائج أفعالها ، وأن أحداً لن يبلى طلب غيره فى أن يحمل شيئاً عنه من أوزاره .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

15

ولمسة أخرى بحقيقة أخرى . حقيقة فردية التبعة ، والجزاء الفردي الذي لا يغني فيه احد عن أحد شيئاً . فما بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] من حاجة الى هدايتهم يحققها لنفسه ، فهو محاسب على عمله وحده ، كما أن كلاً منهم محاسب على ما كسبت يداه ، يحمل حمله وحده ، لا يعينه أحد عليه . ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه ، وهو الكاسب وحده لا سواه ؛ والأمر كله صائر إلى الله :

( ولا تزر وازرة وزر أخرى . وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ) . . .

( ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ، وإلى الله المصير ) . .

وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الأخلاقي ، وفي السلوك العملي سواء . فشعور كل فرد بأنه مجزيُّ بعمله ، لا يؤاخذ بكسب غيره ، ولا يتخلص هو من كسبه ، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل ان تحاسب ! مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء ، أو أن يحمل عنه أحد شيئاً . كما أنه - في الوقت ذاته - عامل مطمئن ، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة ، فيطيش وييئس من جدوى عمله الفردي الطيب . ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلال بما يملك من وسيلة .

إن الله - سبحانه - لا يحاسب الناس جملة بالقائمة ! إنما يحاسبهم فرداً فرداً ؛ كل على عمله ، وفي حدود واجبه . ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده . فإذا قام بقسطه هذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها ، فإنما هو محاسب على إحسانه . كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح . فالله لا يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا !

والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن ، فتكون أعمق وأشد أثراً . يصور كل نفس حاملة حملها . فلا تحمل نفس حمل آخرى وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب الأقرباء ليحمل عنها شيئاً ، فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئاً مما يثقلها !

إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقاله ويمضي في طريقه ، حتى يقف أمام الميزان والوزّان ! وهي في وقفتها يبدو على من فيها الجهد والإعياء ، واهتمام كل بحمله وثقله ، وانشغاله عن البعداء والأقرباء !

وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة ، يلتفت إلى رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] :

( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب واقاموا الصلاة ) . .

فهؤلاء هم الذين يفلح فيهم الإنذار . هؤلاء الذين يخشون ربهم ولم يشاهدوه . ويقيمون الصلاة ليتصلوا بربهم ويعبدوه . هؤلاء هم الذين ينتفعون بك ، ويستجيبون لك . فلا عليك ممن لا يخشى الله ولا يقيم الصلاة .

ومن تزكى فأنما يتزكى لنفسه . .

لا لك . ولا لغيرك . إنما هو يتطهر لينتفع بطهره . والتطهر معنى لطيف شفاف . يشمل القلب وخوالجه ومشاعره ، ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره . وهو معنى موح رفاف .

( وإلى الله المصير ) . .

وهو المحاسب ، والمجازي ، فلا يذهب عمل صالح ، ولا يفلت عمل سيىء . ولا يوكل الحكم والجزاء إلى غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون . .