التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَةٗۚ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (35)

ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من ألوان ضلال هؤلاء المشركين وجحودهم فقال : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } .

وقال القرطبى ما ملخصه : قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة ، يصفقون ويصفرون ، فكان ذلك عبادة في ظنهم .

والمكاء : الصفير . يقال مكا يمكو مكوا ومكاء إذا صفر .

والتصدية : التصفيق . يقال : صدى يصدى تصدية إذا صفق .

قال قتادة : المكاء : ضرب بالأيدى ، والتصدية : الصياح .

والمعنى : أن هؤلاء المشركين لم تكن صلاتهم عند البيت الحرام إلا تصفيقا وتصفيراً ، وهرجا ومرجا لاوقار فيه ، ولا استشعار لحرمة البيت ، ولا خشوع لجلاله الله - تعالى - ، وذلك لجلهلهم بما يجب عليهم نحو خالقهم ، ولحصرهم على أن يسيئوا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن ، أو وهو يطوف بالبيت ، أو وهو يؤدى شيئا من شعائر الإِسلام وعباداته . فقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن رفعوا أصواتهم بالصياح والغناء ليمنعوا الناس من سماعه . قال - تعالى - : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وروى ابن جرير أن ابن عمر حكى فعلهم ، فصفر ، وأمال خده وصفق بيديه .

وقال مجاهد إنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبى - صلى الله عليه وسلم - صلاته .

وعن سعيد بن جبير : كانت قريش يعارضون النبى - صلى الله عليه وسلم - في الطواف يستهئزون به ، يصفرون ويصفقون .

وقال الفخر الرازى : فإن قيل المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف جاز استثناؤهما من الصلاة ؟

قلنا : فيه وجوه : الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة فخرج هذا الاستثناء على حسب ، معتقدهم .

الثانى : أن هذا كقولك : وددت الأمير فجعل جفائى صلتى . أى : أقام الجفاء مقام الصلة فكذا هنا .

الثالث : الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له . كما تقول العرب : ما لفلان عيب إلا السخاء . يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له .

وقوله : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } وعيد لهم على كفرهم وجحودهم ، واستهزائهم بشعائر الله .

أى : فذوقوا - أيها الضالون - العذاب الشديد بسبب كفركم وعنادكم واستهزائكم بالحق الذي جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله ،

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَةٗۚ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (35)

30

( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )

إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم . فما هذه بصلاة ! إنما كانت صفيراً بالأفواه وتصفيقاً بالأيدي ، وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه ، ولا استشعار لحرمة البيت ، ولا خشوع لهيبة الله .

عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ، ويصفقون ويصفرون .

وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها " بلاد المسلمين " ! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة . بعدما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة : صورة ألوهية العبيد في الأرض ، وحاكميتهم في حياة الناس . . وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها ، وفرع منها !

( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .

وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة . فأما العذاب الذي طلبوه - عذاب الاستئصال المعروف - فهو مؤجل عنهم ، رحمة من الله بهم ، وإكراماً لنبيه [ ص ] ومقامه فيهم ، عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه .