التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ} (12)

ثم بين - سبحانه - أن حال هؤلاء المشركين تدعو إلى العجب فقال : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } .

قال الجمل : وقوله { بَلْ عَجِبْتَ } إضراب إما عن مقدر دل عليه قوله : { فاستفتهم } أى : هم لا يقرون بل عجبت ، وإما عن الأمر بالاستفتاء ، أى : لا تستفتهم فإنهم معاندون ، بل انظر إلى تفاوت حالك وحالهم .

أى : بل عجبت - أيها الرسول الكريم - ومن حقك أن تعجب ، من إنكار هؤلاء الجاحدين لإِمكانية البعث ، مع هذه الأدلة الساطعة التى سقناها لهم على أن البعث حق .

وجملة { وَيَسْخَرُونَ } حالية . أى : والحال أنهم يسخرون من تعجبك ومن إنكارك عليهم ذلك ، ومن إيمانك العميق بهذه الحقيقة ، حتى إنك لترددها على مسامعهم صباح مساء .

قال الآلوسى : وقرأ حمزة والكسائى : { بل عجبتُ } - بضم التاء - . . وأولت هذه القراءة بأن ذلك من باب الفرض ، أى : لو كان العجب مما يجوز علىَّ لعجبت من هذه الحال .

ثم قال : والذى يقتضيه كلام السلف أن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل للسبب ، ولذا قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب ، وهو فى الله - تعالى - بمعنى يليق لذاته - تعالى - وهو - سبحانه - أعلم به ، فلا يعينون معناه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ} (12)

قوله : بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة : «بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ » بضم التاء من عجبت ، بمعنى : بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا ، وتكذيبهم تنزيلي وهم يسخرون . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة بَلْ عَجِبْتَ بفتح التاء بمعنى : بل عجبت أنت يا محمد ويسخرون من هذا القرآن .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

فإن قال قائل : وكيف يكون مصيبا القارىء بهما مع اختلاف معنييهما ؟ قيل : إنهما وإن اختلف معنياهما فكلّ واحد من معنييه صحيح ، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل ، وسحْر منه أهل الشرك بالله ، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله ، وَسخِر المشركون بما قالوه .

فإن قال : أكان التنزيل بإحداهما أو بكلتيهما ؟ قيل : التنزيل بكلتيهما ، فإن قال : وكيف يكون تنزيل حرف مرّتين ؟ قيل : إنه لم ينزل مرّتين ، إنما أنزل مرّة ، ولكنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بالقراءتين كلتيهما ، ولهذا مَوضع سنستقصي إن شاء الله فيه البيان عنه بما فيه الكفاية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ قال : عجب محمد عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن حين أُعطيه ، وسخر منه أهل الضلالة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ} (12)

{ بَلْ } للإِضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب .

وقرأ الجمهور { بَلْ عَجِبْتَ } بفتح التاء للخطاب . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم المخاطبِ بقوله : { فَاستَفْتِهِم } [ الصافات : 11 ] . وفعل المضيّ مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو : بِعت . والمعنى : اعجَبْ لهم . ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إعْراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملاً في حقيقته . ويجوز أن يكون الكلام على تقدير همزة الاستفهام ، أي بل أعجبت .

والمعنى على الجميع : أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى : { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد } في سورة [ الرعد : 5 ] .

وقرأ حمزة والكسائي وخلف { بَلْ عَجِبْتُ } بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد : أن الله أسند العجب إلى نفسه . ويُعرَف أنه ليس المراد حقيقةَ العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه ، وهو استعظام الأمر المتعجب منه . وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليعجب من رجلين يَقتُل أحدهُما الآخرَ يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " رواه النسائي بهذا اللفظ . يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافراً فيقاتل فيستشهد في سبيل الله .

وقولُه في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلاً فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما « عجِب الله من فعالكما » .

ونزل فيه { ويؤثرون على أنفسهم }{[347]} [ الحشر : 9 ] . وقوله : « عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل »{[348]} . وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح ، والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله : { عَجِبْتُ } ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث . ويجوز أن يكون أطلق { عجبت } على معنى المجازاة على عَجبهم لأن قوله : { فاستفتهم أهم أشدُّ خلقاً } [ الصافات : 11 ] دلّ على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عَجبهم . وأطلق على ذلك العقاب فعل { عجبت } كما أطلق على عقاب مكرهم المكرُ في قوله : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .

والواو في { ويَسْخَرُونَ } واو الحال ، والجملة في موضع الحال من ضمير { عَجِبْتَ } أي كان أمرهم عجباً في حال استسخارهم بك في استفتائهم . وجيء بالمضارع في { يسخرون } لإِفادة تجدد السخرية ، وأنهم لا يرعوُون عنها .

والسخرية : الاستهزاء ، وتقدمت في قوله تعالى : { فحاق بالذين سخروا منهم } في سورة [ الأنعام : 10 ] .


[347]: - رواه البخاري في مناقب الأنصار وفيه قصة.
[348]: - رواه البخاري في الجهاد.