التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (199)

ثم تتجه السورة الكريمة بعد ذلك إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم فترسم له ولكل عاقل طريق معاملته للخلق على وجه يقيه شر الحرج والضيق فتقول : { خُذِ العفو . . . } .

العفو : يطلق في اللغة على خالص الشىء وجيده ، وعلى الفضل الزائد فيه ، وعل السهل الذي لا كلفة فيه .

أى : خذ ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس ، وارض منهم بما تيسر من أعمالهم وتسهل من غير كلفة . ولا تطلب منهم ما يشق عليهم ويرهقهم حتى لا ينفروا ، وكن لينا رفيقاً في معاملة أتباعك ، فإنك { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } و { وَأْمُرْ بالعرف } أى : مر غيرك بالمعروف المستحسن من الأفعال ، وهو كل ما عرف حسنه في الشرع ، فإن ذلك أجدر بالقبول من غير نكير ، فإن النفوس حين تتعود الخير الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال ، يسلس قيادها ، ويسهل توجيهها .

{ وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } الذين لا يدركون قيم الأشياء والأشخاص والكلمات فيما يبدر منهم من أنواع السفاهة والإيذاء لأن الرد على أمثال هؤلاء ومناقشتهم لا تؤدى إلى خير ، ولا تنتهى إلى نتيجة . والسكوت عنهم احتزام للنفس ، واحترام للقول ، وقد يؤدى الإعراض عنهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها .

وهذه الآية على قصرها تشتمل - كما قال العلماء - على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان لأخيه الإنسان ، وهى طريق قويم لكل ما تطلبه الإنسانية الفاضلة لأبنائها الأبرار ، وقد جاءت في أعقاب حديث طويل عن أدلة وحدانية الله - تعالى - وأبطال الشرك والشركاء ، لكى تبين للناس في كل زمان ومكان أن التحلى بمكارم الأخلاق إنما هو نتيجة لإخلاص العبادة لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد .

قال القرطبى : هذه الآية من ثلاث كلمات ، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات .

فقوله { خُذِ العفو } دخل فيه صلة القاطعين والعفو عن المذنبين ، والرفق بالمؤمنين ، وغير ذلك من أخلاق المطيعين . ودخل في قوله { وَأْمُرْ بالعرف } صلة الأرحام ، وتقوى الله في الحلال والحرام ، وغض الأبصار ، والاستعداد لدار القرار .

وفى قوله { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } الحض على التعلق بالعلم ، والإعراض عن أهل الظلم ، والتنزه عن منازعة السفهاء ، ومساواة الجهلة الأغبياء ، وغير ذلك من الأخلاق المجيدة والأفعال الرشيدة " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (199)

القول في تأويل قوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } . .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : خذ العفوَ من أخلاق الناس ، وهو الفضل وما لا يجهدهم . ذكر من قال ذلك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن مجاهد ، في قوله : خذِ العَفْوَ قال : من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس .

حدثنا يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : خذِ العَفْوَ قال : عفو أخلاق الناس ، وعفو أمورهم .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عُرْوة ، عن أبيه في قوله : خذِ العَفْوَ . . . الاَية . قال عروة : أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ابن الزّبير ، قال : ما أنزل الله هذه الاَية إلاّ في أخلاق الناس : خذِ العَفْوَ وأُمرْ بالعرْفِ الاَية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني عن مجاهد : خُذِ العَفْوَ من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس .

قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن وهب بن كيسان ، عن ابن الزبير : خُذِ العَفْوَ قال : من أخلاق الناس ، والله لاَخذنه منهم ما صحبتهم .

قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ابن الزبير ، قال : إنما أنزل الله خُذِ العَفْوَ من أخلاق الناس .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : خُذِ العَفْوَ قال : من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس أو تحسس ، شكّ أبو عاصم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : خُذِ العَفْوَ من أموال الناس ، وهو الفضل . قالوا : وأمر بذلك قبل نزول الزكاة ، فلما نزلت الزكاة نسخ . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله خُذِ العَفْوَ يعني : خذ ما عفا لك من أموالهم ، وما أتوك به من شيء فخذه . فكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت الصدقات إليه .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : خُذِ العَفْوَ أما العفو : فالفضل من المال ، نسختها الزكاة .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : خُذِ العَفْوَ يقول : خذ ما عفا من أموالهم ، وهذا قبل أن تنزل الصدقة المفروضة .

وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين وترك الغلظة عليهم قبل أن يُفرض قتالهم عليه . ذكر من قال ذلك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : خُذِ العَفْوَ قال : أمره فأعرض عنهم عشر سنين بمكة . قال : ثم أمره بالغلظة عليهم وأن يقعد لهم كلّ مرصد وأن يحصرهم ، ثم قال : فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ الاَية كلها ، وقرأ : يا أيّها النّبِيّ جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنافَقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ . قال : وأمر المؤمنين بالغلظة عليهم ، فقال : يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً بعدما كان أمرهم بالعفو ، وقرأ قول الله : قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ ثم لم يقبل منهم بعد ذلك إلاّ الإسلام أو القتل ، فنسخت هذه الاَية العفو .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معناه : خذ العفو من أخلاق الناس ، واترك الغلظة عليهم ، وقال : أُمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه اتبع ذلك تعليمه نبيه صلى الله عليه وسلم محاجته المشركين في الكلام ، وذلك قوله : قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونَ ، وعقبه بقوله : وإخْوَانُهُمْ يَمُدونَهُمْ فِي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ وإذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها فما بين ذلك بأن يكون من تأديبه نبيه صلى الله عليه وسلم في عشرتهم به أشبه وأولى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين .

فإن قال قائل : أفمنسوخ ذلك ؟ قيل : لا دلالة عندنا على أنه منسوخ ، إذ كان جائزا أن يكون ، وإن كان الله أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام في تعريفه عشرةَ من لم يؤمر بقتاله من المشركين مرادا به تأديب نبيّ الله والمسلمين جميعا في عشرة الناس وأمرهم بأخذ عفو أخلاقهم ، فيكون وإن كان من أجلهم نزل تعليما من الله خلقه صفة عشرة بعضهم بعضا ، لم يجب استعمال الغلظة والشدّة في بعضهم ، فإذا وجب استعمال ذلك فيهم استعمل الواجب ، فيكون قوله : خُذِ العَفْوَ أمرا بأخذه ما لم يجب غير العفو ، فإذا وجب غيره أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك فلا يحكم على الاَية بأنها منسوخة لما قد بينا ذلك في نظائره في غير موضع من كتبنا .

وأما قوله : وأمُرْ بالعُرْفِ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم بما :

حدثني الحسن بن الزبرقان النخعي ، قال : ثني حسين الجعفي ، عن سفيان بن عيينة ، عن رجل قد سماه ، قال : لما نزلت هذه الاَية : خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا جِبْرِيلُ ما هَذَا » ؟ قال : ما أدري حتى أسأل العالِم . قال : ثم قال جبريل : يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبيّ ، قال : لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما هَذَا يا جِبْرِيلُ » ؟ قال : إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصلَ من قطعك .

وقال آخرون بما :

حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : وأْمُرْ بالعُرْفِ يقول : بالمعروف .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأْمُرْ بالعُرْفِ قال : أما العرف : فالمعروف .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وأْمُرْ بالعُرْفِ أي بالمعروف .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالعُرْف ، وهو المعروف في كلام العرب ، مصدر في معنى المعروف ، يقال أوليته عُرْفا وعارفا وعارفةً كل ذلك بمعنى المعروف . فإذا كان معنى العرف ذلك ، فمن المعروف صلة رحم من قُطِع ، وإعطاء من حُرِم ، والعفو عمن ظَلَم . وكلّ ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه فهو من العرف . ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى فالحقّ فيه أن يقال : قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله لا ببعض معانيه دون بعض .

وأما قوله : وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ فإنه أمر من الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عمن جهل . وذلك وإن كان أمرا من الله لنبيه ، فإنه تأديب منه عزّ ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم أو اعتدى عليهم ، لا بالإعراض عمن جهل الواجب عليه من حقّ الله ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته ، وهو للمسلمين حَرْبٌ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ قال : أخلاقٌ أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، ودله عليها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (199)

أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين وعظتهم وإقامة الحجة عليهم وبعثتهم على التأمل والنظر في دلائل وحدانية الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي دينه وكتابه وفضح ضلال المشركين وفساد معتقدهم والتشويه بشركائهم ، وقد تخلل ذلك كلّه التسجيل بمكابرتهم ، والتعجيبُ منهم كيف يركبون رؤوسهم ، وكيف يَنأون بجانبهم ، وكيف يصمون أسماعهم ، ويغْمضون أبصارهم عما دعوا إلى سماعه وإلى النظر فيه ، ونُظرت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم ، وكفروا نعمة الله فحل بهم ما حل من أصناف العذاب ، وأنذر هؤلاء بأن يحل بهم ما حل بأولئك ، ثم أعلن باليأس من ارعوائهم ، وبانتظار ما سيحل بهم من العذاب بأيدي المؤمنين ، وبتثبيت الرسول والمؤمنين وتبشيرهم والثناء على ما هم عليه من الهدى ، فكان من ذلك كله عبرة للمتبصرين ، ومسلاة للنبيء وللمسلمين ، وتنويه بفضلهم وإذ قد كان من شأن ذلك أن يثير في أنفس المسلمين كراهية أهل الشرك وتحفزُهم للانتقام منهم ومجافاتهم والإعراض عن دعائِهم إلى الخير ، لا جرم شُرع في استيناف غرض جديد ، يكون ختاماً لهذا الخوض البديع ، وهو غَرض أمْرِ الرسول والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم ، وبأن يَسعوهم من عفوهم والدَأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله : { خُذ العفو وأمر بالعرف } الآيات .

والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لإضراره ، كما يقال : أخذت العدو من تلابيبه ، ولذلك يقال في الأسير أخيذ ، ويقال للقوم إذا أسروا أخذوا واستعمل هنا مجازاً فاستعير للتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها ، فيُشبّه ذلك التلبسُ واختيارهُ على تلبس آخر بأخذ شيء من بين عدة أشياء ، فمعنى ( خذ العفو ) : عَامِل به واجْعله وصفاً ولا تتلبس بضده . وأحسب استعارة الأخذ للعرف من مبتكرات القرآن ولذلك ارجع أن البيت المشهور وهو :

خُذي العفوَ مني تَستديمي مَوَدتي *** ولا تَنْطِقي في سَوْرَتي حين أغْضَبُ

هو لأبي الأسود الدؤلي ، وأنه اتبع استعمال القرآن ، وأن نسبته إلى أسماء بن خارجة الفزاري أو إلى حاتم الطائي غير صحيحة .

والعفو الصفح عن ذنب المذنب وعدم مؤاخذته بذَنبه وقد تقدم عند قوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } [ البقرة : 219 ] وقوله : { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } في سورة البقرة ( 109 ) ، والمراد به هنا ما يعم العفو عن المشركين وعدم مؤاخذتهم بجفائهم ومساءتهم الرسول والمؤمنين .

وقد عمت الآية صور العفو كلها : لأن التعريف في العفو تعريف الجنس فهو مفيد للاستغراق إذا لم يصلح غيرُه من معنى الحقيقة والعهد ، فأمر الرسول بأن يعفو ويصفح وذلك بعدم المؤاخذة بجفائهم وسوء خلقهم ، فلا يعاقبهم ولا يقابلهم بمثل صنيعهم كما قال تعالى : { فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم } [ آل عمران : 159 ] ، ولا يخرج عن هذا العموم من أنواع العفو أزمانه وأحواله إلا ما أخرجته الأدلة الشرعية مثل العفو عن القاتل غيلة ، ومثل العفو عن انتهاك حرمات الله ، والرسولُ أعلم بمقدار ما يُخص من هذا العموم ، وقد يبينه الكتاب والسنة وألحق به ما يقاس على ذلك المبين ، وفي قوله : { وأمُر بالعُرف } ضابط عظيم لمقدَار تخصيص الأمر بالعفو .

ثم العفو عن المشركين المقصود هنا أسبقُ أفراد هذا العموم إلى الذهن من بقيتها ولم يَفهم السلف من الآية غير العموم ففي « صحيح البخاري » عن ابن عباس قال « قدِم عُيينة بن حصن المدينة فنزل على ابن أخيه الحُر بن قَيس ، وكان الحُرُ بن قيس من النفر الذين يُدنيهم عمر ، وكان القراءُ أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، فقال عُيينةُ لابن أخيه لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فأستأذن الحُر لعُيينة فأذِن له عمر ، فلما دخل عليه قال « هِيهْ يابنَ الخطاب ما تُعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل » فغضب عمر حتى همّ أن يُوقِع به فقال له الحُر : « يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه : { خذ العفو وأمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وإن هذا من الجاهلين ، واللَّهِ ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقّافاً عند كتاب الله » وفيه عن عبد الله بن الزبير قال « ما أنزل الله ذلك إلا في أخلاق الناس » ومن قال إن هذه الآية نسختها آيات القتال فقد وهم : لأن العفو باب آخر ، وأما القتال فله أسبابه ولعله أراد من النسخ ما يشمل معنى البيان أو التخصيص في اصطلاح أصول الفقه .

و { العُرف } اسم مرادف للمعروف من الأعمال وهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده ، وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة :

فلا النُّكْر معروفٌ ولا العُرف ضايعُ

فقابل النكر بالعُرف ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } في سورة [ آل عمران ] ( 110 ) .

والأمر يشمل النهي عن الضد ، فإن النهي عن المنكر أمر بالمعروف ، والأمر بالمعروف نهي عن المنكر ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، فالاجتزاء بالأمر بالعرف عن النهي عن المنكر من الايجاز ، وإنما اقتصر على الأمر بالعرف هنا : لأنه الأهم في دعوة المشركين لأنه يدعوهم إلى أصول المعروف واحداً بعد واحد ، كما ورد في حديث معاذ بن جبل حين أرسله إلى أهل اليمن فإنه أمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ثم قال : « فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات » ولو كانت دعوة المشركين مبتدأة بالنهي عن المنكر لنفروا ولملّ الداعي ، لأن المناكير غالبة عليهم ومحدقة بهم ، ويدخل في الأمر بالعرف الاتسام به والتخلق بخلقه : لأن شأن الآمر بشيء أن يكون متصفاً بمثله .

وإلا فقد تعرض للاستخفاف على أن الآمر يبدأ بنفسه فيأمرها كما قال أبو الأسود :

يأيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم

على أن خطاب القرآن الناس بأن يأمروا بشيء يعتبر أمراً للمخاطب بذلك الشيء وهي المسألة المترجمة في أصول الفقه بأن الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء .

والتعريف في { العرف } كالتعريف في { العفو } يفيد الاستغراق .

وحُذف مفعول الأمر لافادة عموم المأمورين { واللَّهُ يَدعُو إلى دار السلام } [ يونس : 25 ] ، أمر الله رسوله بأن يأمر الناس كلهم بكل خير وصلاح فيدخل في هذا العموم المشركون دخولاً أولياً لأنهم سبب الأمر بهذا العموم أي لا يصدنك إعراضهم عن إعادة إرشادهم وهذا كقوله تعالى : { فأعرض عنهم وعظهُم } [ النساء : 63 ] .

والإعراض : إدارة الوجه عن النظر للشيء . مشتق من العارض وهو الخَد ، فإن الذي يلتفت لا ينظر إلى الشيء وقد فسر ذلك في قوله تعالى : { أعْرَضَ ونأى بجانبه } [ الإسراء : 83 ] وهو هنا ، مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد ، شبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به لأن شأن العلم به أن تترتب عليه المؤاخذة .

و« الجهل » هنا ضد الحلم والرشد ، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام ، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم لأن التعريف فيه للاستغراق ، وأعظم الجهل هو الإشراك ، إذ اتخاذ الحجر إلهاً سفاهة لا تَعْدِلها سفاهة ، ثم يشمل كل سفيه رأي . وكذلك فَهم منها الحر بن قيس في الخبر المتقدم آنفاً ، وأقره عمر بن الخطاب على ذلك الفهم .

وقد جمعتْ هذه الآية مكارم الأخلاق لأن فضائِل الأخلاق لا تعدُو أن تكون عفواً عن اعتداء فتدخل في { خذ العفو } ، أو إغضاءً عما لا يلائم فتدخل في { وأعرض عن الجاهلين } ، أو فعلَ خير واتساماً بفضيلة فتدخل في { وأمر بالعرف } كما تقدم من الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء ، وهذا معنى قول جعفر بن محمد : « في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضاً ، فإن الأمر يأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف ، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامَحة من الحقوق ، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق .

وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته .