أما الحادث الثانى الذى لم يستطع موسى أن يقف أمامه صامتا ، فقد حكاه القرآن فى قوله : { فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً . . . }
أى : فانطلق موسى والخضر للمرة الثانية بعد خروجهما من السفينة ، وبعد أن قبل الخضر اعتذار موسى .
{ حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ } فى طريقهما ، ما كان من الخضر إلا أن أخذه { فقتله } .
وهنا لم يستطع موسى - عليه السلام - أن يصبر على ما رأى ، أو أن يكظم غيظه ، فقال باستنكار وغضب : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً } أى : طاهرة بريئة من الذنوب { بغير نفس } .
أى : بغير أن ترتكب ما يوجب قتلها ، لأنها لم تقتل غيرها حتى تقتص منها . أى : أن قتلك لهذا الغلام كان بغير حق .
{ لقد جئت } أيها الرجل { شيئا نكرا } أى : منكرا عظيما . يقال . نكر الأمر ، أى : صعب واشتد . والمقصود : لقد جئت شيئا أشد من الأول فى فظاعته واستنكار العقول له .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نّكْراً } .
يقول تعالى ذكره : فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله العالم ، فقال له موسى : أقتلت نفسا زكية .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة : «أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً » وقالوا معنى ذلك : المطهرة التي لا ذنب لها ، ولم تذنب قطّ لصغرها . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : نَفْسا زَكِيّةً بمعنى : التائبة المغفور لها ذنوبها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً والزكية : التائبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً قال : الزكية : التائبة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً قال : قال الحسن : تائبة ، هكذا في حديث الحسن وشهْر زاكية .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله نَفْسا زَكيّةً قال : تائبة . ذكر من قال : معناها المسلمة التي لا ذنب لها :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، أنه سمع سعيد بن جبير يقول : وجد خضر غلمانا يلعبون ، فأخذ غلاما ظريفا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين . قال : وأخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبئي قال : اسم الغلام الذي قتله الخضر : جيسور «قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً » قال : مسلمة . قال : وقرأها ابن عباس : زَكِيّةً كقولك : زكيا .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل الكوفة يقول : معنى الزكية والزاكية واحد ، كالقاسية والقسية ، ويقول : هي التي لم تجن شيئا ، وذلك هو الصواب عندي لأني لم أجد فرقا بينهما في شيء من كلام العرب .
فإذا كان ذلك كذلك ، فبأيّ القراءتين قرأ ذلك القارىء فمصيب ، لأنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار بمعنى واحد .
وقوله : بِغَيْرِ نَفْسٍ يقول : بغير قصاص بنفس قتلت ، فلزمها القتل قودا بها . وقوله : لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْرا يقول : لقد جئت بشيء منكر ، وفعلت فعلاً غير معروف . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْرا والنّكْرُ أشدّ من الإمر .
{ فانطلقا } في موضع نزولهما من السفينة ، فمرا بغلمان يلعبون ، فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء ، فاقتلع رأسه ، ويقال رضه بحجر ، ويقال ذبحه وقال بعض الناس كان الغلام لم يبلغ الحلم ، ولذلك قال موسى { زكية } أي لم تذنب ، وقالت فرقة بل كان بالغاً شاباً ، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام ، ومنه قول ليلى الأخيلية : [ الطويل ]
غلام إذا هز القناة سقاها{[7852]} . . . وهذا في صفة الحجاج ، وفي الخبر أن هذا الغلام ، كان يفسد في الأرض ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ، ويحميانه ممن يطلبه ، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر ونافع والجمهور «زاكية » ، وقرأ الحسن وعاصم والجحدري «زكية » والمعنى واحد ، وقد ذهب القوم إلى الفرق وليس ببين{[7853]} ، وقوله { بغير نفس } يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس ، وهذا يدل على كبر الغلام وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ، ولا بغير نفس وقرأ الجمهور «نكراً » وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وشيبة «نكُراً » بضم الكاف واختلف عن نافع ، ومعناه : شيئاً ينكر ، واختلف الناس أيهما أبلغ قوله { إمراً } [ الكهف : 71 ] أو قوله { نكراً } فقالت فرقة هذا قتل بين ، وهناك مترقب ف { نكراً } أبلغ وقالت فرقة هذا قتل واحد ، وذلك قتل جماعة ف { إمراً } [ الكهف : 71 ] أبلغ وعندي أنهما المعنيين ، قوله { إمراً } [ الكهف : 71 ] أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم ، و { نكراً } أبين في الفساد لأن مكروهه قد وقع ونصف القرآن بعد الحروف انتهى إلى النون من قوله { نكراً }{[7854]} .
يدل تفريع قوله : { فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً } عن اعتذار موسى ، على أن الخضر قبل عذره وانطلقا مصطحبين .
والقول في نظم قوله : { حتى إذا لقيا غلاماً } كالقول في قوله : { حتى إذا ركبا في السفينة } [ الكهف : 71 ] .
وقوله : { فقتله } تعقيب لفعل { لقيا } تأكيداً للمبادرة المفهومة من تقديم الظرف ، فكانت المبادرة بقتل الغلام عند لقائه أسرع من المبادرة بخرق السفينة حين ركوبها .
وكلام موسى في إنكار ذلك جرى على نسق كلامه في إنكار خرق السفينة سوى أنه وصف هذا الفعل بأنه نكُر ، وهو بضمتين : الذي تنكره العقول وتستقبحه ، فهو أشد من الشيء الإمْر ، لأن هذا فساد حاصل والآخر ذريعة فساد كما تقدم . ووصف النفس بالزاكية لأنها نفس غلام لم يبلغ الحلم فلم يقترف ذنباً فكان زكياً طَاهراً . والزكاء : الزيادة في الخير .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ورويس عن يعقوب { زَاكية } بألف بعد الزاي اسم فاعل من زكا . وقرأ الباقون { زكية } ، وهما بمعنى واحد .
قال ابن عطية : النون من قوله : { نكراً } هي نصف القرآن ، أي نصف حروفه . وقد تقدم أن ذلك مخالف لقول الجمهور : إن نصف القرآن هو حرف التاء من قوله تعالى : { وليتلطف } في هذه السورة ( 19 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.