اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا} (74)

قوله : { فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ } الآية .

اعلم أنَّ لفظ الغلام قد يتناول الشابَّ البالغ ، وأصله من الاغتلامِ ، وهو شدَّة الشّبَقِ ، وذلك إنما يكون في الشَّباب ، وقد يتناولُ هذا اللفظُ الصبي الصغير ، وليس في القرآن كيف لقياه : هل كان يلعبُ مع الغلمان ، أو كان منفرداً ؟ أو هل كان مسلماً ، أو كان كافراً ؟ أو هل كان بالغاً ، أو صغيراً ؟ لكن اسم الغلام بالصَّغير أليقُ ، وإن احتمل الكبير ، إلاَّ أن قوله : " بغير نفسٍ " أليق بالبالغ منه بالصبيِّ ؛ لأن الصبيَّ لا [ يقتل ] {[21227]} {[21228]} .

قال ابن عباس{[21229]} : لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفساً زكيَّة بغير نفس إلاَّ وهو صبيٌّ لم يبلغ{[21230]} .

وكيفيَّة قتله ، هل كان بحزِّ رأسه ، أو بضرب رأسه بالجدار ، أو بطريق آخر ؟ فليس في لفظ القرآن ما يدلُّ على شيءٍ من هذه الأقسام ، لكنَّه روي في الحديث عن ابن عباس عن أبيِّ بن كعب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الغلام الذي قتله الخضرُ ، طبع كافراً ، ولو عاش ، لأرهق والديه طغياناً وكفراً " {[21231]} .

فإن قيل : إنَّ موسى استبعد أن يقتل النَّفس إلاَّ لأجل القصاصِ ، وليس الأمر كذلك ، لأنه قد يحلُّ دمه بسبب آخر .

فالجواب : أنَّ السَّبب الأقوى هو ذاك .

قوله : { زَكِيَّةً } : قرأ{[21232]} " زَاكِية " بألف وتخفيف الياء : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وبدون الألف وتشديد الياء : الباقون ، فمن قرأ " زاكيةً " فهو اسمُ فاعلٍ على أصله ، ومَنْ قرأ " زَكِيَّةً " فقد أخرجه إلى فعيلة للمبالغة .

قال الكسائيُّ والفراء : معناهما واحدٌ ؛ مثل القاسيةِ والقسيَّة ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الزَّاكيةُ : التي لم تذنبْ قطُّ ، والزكيَّة : التي أذنبت ثم تابت .

[ والغلام : من لم يبلغْ ] . وقد يطلق على البالغ الكبير . فقيل مجازاً باعتبار ما كان . ومنه قول ليلى : [ الطويل ]

شَفاهَا مِنَ الدَّاءِ الذي قَدْ أصَابهَا *** غُلامٌ إذَا هزَّ القَناةَ شَفاهَا{[21233]}

وقول الآخر : [ الطويل ]

تَلقَّ ذُبَابَ السَّيفِ عنِّي فإنَّني *** غُلامٌ إذا هو جيتُ لستُ بِشاعرِ{[21234]}

وقيل : بل هو حقيقة ، لأنه من الاغتلام وهو الشَّبق ، وذلك إنما يكون في الشاب المحتلمِ ، والذي يظهرُ أنه حقيقةٌ فيهما عند الاطلاق ، فإذا أريد أحدهما ، قيد كقوله : " لغُلامَيْنِ يَتيمينِ " وقد تقدَّم ترتيب أسماءِ الآدميِّ من لدن هو جنينٌ إلى أن يصير شيخاً ، ولله الحمد ، في آل عمران .

قال الزمخشري : " فإن قلت : لم قال : " حتى إذا ركبا في السفينة خرقها " بغير فاءٍ ، و " حتَّى إذا لقيا غلاماً ، فقتله " بالفاء ؟ قلت : جعل " خَرقهَا " جزاء للشرط ، وجعل " قتلهُ " من جملة الشرط معطوفاً عليه ، والجزاء " قال : أقتلت " فإن قلت : لم خولف بينهما ؟ قلت : لأنَّ الخرق لم يتعقَّب الركوب ، وقد تعقَّب القتل لقاء الغلام " .

قوله : بغَيْرِ نفسٍ " فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنها متعلقة ب " قَتلْتَ " .

الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، على أنها حال من الفاعل ، أو من المفعول ، أي : قتلته ظالماً ، أو مظلوماً ، كذا قدَّره أبو البقاء{[21235]} ، وهو بعيد جدًّا .

الثالث : أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : قتلاً بغير نفسٍ .

قوله : " نُكْراً " قرأ نافع{[21236]} ، وأبو بكر ، وابن ذكوان بضمَّتين ، والباقون بضمة وسكون ، وهما لغتان ، أو أحدهما أصلٌ ، و " شَيْئاً " : يجوز أن يراد به المصدر ، أي : مجيئاً نكراً ، وأن يراد به المفعول به ، أي : جئت أمراً منكراً ، وهل النكر أبلغ من الإمر ، أو بالعكس ؟ فقيل : الإمرُ أبلغُ ؛ لأنَّ قتل أنفسٍ بسبب الخرقِ أعظم من قتل نفسٍ واحدة وأيضاً : فالإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر ، وقيل : النُّكر أبلغ ، لأن معه القتل الحتم ، بخلاف خرق السفينة ، فإنه يمكن تداركه ؛ ولذلك قال : " ألَمْ أقُلْ لَكَ " ولم يأتِ ب " لَكَ " مع " إمْراً " ؛ لأن هذه اللفظة تؤكِّد التَّوبيخ . وقيل : زاد ذلك ، لأنَّه نقض العهد مرَّتين ،


[21227]:في أ: يعقل.
[21228]:في ب: يقتل.
[21229]:ينظر: معالم التنزيل 3/174.
[21230]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/175).
[21231]:أخرجه أبو داود (4705) والترمذي (3150) وأحمد (5/121) وابن أبي عاصم (1/86) من حديث أبي بن كعب.
[21232]:ينظر: السبعة 395، والحجة ، والإتحاف 2/221، والتيسير 124، والنشر 2/216، وإعراب القراءات 1/405، والقرطبي 11/15، والبحر 6/142، والدر المصون 4/473.
[21233]:تقدم.
[21234]:ينظر البيت في البحر المحيط 6/141، روح المعاني 15/338، الدر المصون 4/474.
[21235]:ينظر: الإملاء 2/106.
[21236]:ينظر: السبعة 395، والنشر 2/216، والتيسير 144، والحجة 424، والحجة للقراء السبعة 5/159، والإتحاف 2/221، وإعراب القراءات 1/406، والبحر 6/142، والدر المصون 4/474.