الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا} (74)

قوله تعالى : { فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله } في البخاري قال يعلى قال سعيد :( وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ) " قال أقتلت نفسا زكية " لم تعمل بالحِنْثِ{[10632]} ، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي : ( ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله ، قال له موسى : " أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا . قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " قال{[10633]} : وهذه أشد من الأولى . " قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا " ) لفظ البخاري . وفي التفسير : إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده{[10634]} غلاما ليس فيهم أضوأ منه ، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه ، فقتله . قال أبو العالية : لم يره إلا موسى ، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام .

قلت : ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة ، فإنه أن يكون دمغه أولا بالحجر ، ثم أضجعه فذبحه ، ثم اقتلع رأسه ، والله أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح . وقرأ الجمهور " زاكية " بالألف وقرأ الكوفيون وابن عامر " زكية " بغير ألف وتشديد الياء ، قيل المعنى واحد ، قال الكسائي وقال ثعلب : الزكية أبلغ قال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب قط ، والزكية التي أذنبت ثم تابت .

قوله تعالى : " غلاما " اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا ؟ فقال الكلبي : كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين ، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين ، وأمه من عظماء القرية الأخرى ، فأخذه الخضر فصرعه ، ونزع رأسه عن جسده . قال الكلبي : واسم الغلام شمعون وقال الضحاك : حيسون وقال وهب : اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى وقال الجمهور : لم يكن بالغا ، ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب ، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام ، فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ ، وتقابله الجارية في النساء وكان الخضر قتله لما علم من سِرِّه ، وأنه طبع كافرا كما في صحيح الحديث ، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرا ، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك ، فإن الله تعالى الفعال لما يريد ، القادر على ما يشاء ، وفي كتاب العرائس : إن موسى لما قال للخضر " أقتلت نفسا زكية . . . " الآية - غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر ، وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب : كافر لا يؤمن بالله أبدا . وقد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام ، ومنه قول ليلى الأخيلية{[10635]} :

شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلامٌ إذا هزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا

وقال صفوان لحسان{[10636]} :

تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فإنني *** غلامٌ إذا هُوجِيتُ لستُ بشاعر

وفي الخبر : إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض ، ويقسم لأبويه أنه ما فعل ، فيقسمان على قسمه ، ويحميانه ممن يطلبه ، قالوا : وقوله : " بغير نفس " يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس ، وهذا يدل على كبر الغلام ، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا . قال ابن عباس : كان شابا يقطع الطريق ، وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أُبي وابن عباس " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " والكفر والإيمان من صفات المكلفين ، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه ، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ ، فتعين أن يصار إليه ، والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق .

قوله تعالى : " نكرا " اختلف الناس أيهما أبلغ " إمرا " أو قوله " نكرا " فقالت فرقة : هذا قتل بين ، وهناك مترقب ، ف " نكرا " أبلغ ، وقالت فرقة : هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة ف " إمرا " أبلغ . قال ابن عطية : وعندي أنهما لمعنيين وقوله : " إمرا " أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم ، و " نكرا " بين في الفساد لأن مكروهه قد وقع ، وهذا بين .


[10632]:لأنها لم تبلغ الحلم، وهو تفسير لقوله: "زكية" أي أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث بغير نفس. ولأبي ذر: لم تعمل الخبث (بخاء معجمة وموحدة مفتوحتين). قسطلاني كذا في ك.
[10633]:هو سفيان بن عيينة، كما في القسطلاني. وقيل: كانت هذه أشد من الأولى لما فيها من زيادة "ذلك".
[10634]:في ك و ي: بيد غلام.
[10635]:البيت من قصيدة مدحت بها الحجاج بن يوسف، وقبله: إذا نزل الحجاج أرضا مريضة *** تتبع أقصى دائها فشفاها.
[10636]:قد كان حسان رضي الله عنه قال شعرا فيه صفوان بن المعطل وبمن أسلم من العرب من مضر، فاعترض ابن المعطل وضربه بالسيف وقال البيت. (راجع القصة في سيرة ابن هشام).