التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَتِلۡكَ نِعۡمَةٞ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (22)

ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى هذا الرد الملزم فرعون ، ردا آخر أشد إلزاما وتوبيخا فقال : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } .

واسم الإشارة { تِلْكَ } يعود إلى التربية المفهومة من قوله - تعالى - قبل ذلك : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً . . . الخ } .

وقوله { تَمُنُّهَا } صفة للخير و { أَنْ عَبَّدتَّ } عطف بيان للمبتدأ موضح له .

وهذا الكلام من موسى - عليه السلام - يرى بعضهم أنه قال على وجهة الاعتراف له بالنعمة ، فكأنه يقول له : تلك التربية التى ربيتها لى نعمة منك على ، ولكن ذلك لا يمنع من أن أكون رسولا من الله - تعالى - إليك ، لكى تقلع عن كفرك ، ولكى ترسل معنا بنى إسرائيل .

ويرى آخرون أن هذا الكلام من موسى لفرعون ، إنما قاله على سبيل التهكم به ، والإنكار عليه فيما امتن به عليه ، فكأنه يقول له : إن ما تمنّ به على هو فى الحقيقة نقمة ، وإلا فأية منة لك علىّ فى استعبادك لقومى وأنا واحد منهم ، إن خوف أمى من قتلك لى هو الذى حملها على أن تلقى بى فى البحر ، وتربيتى فى بيتك كانت لأسباب خارجة عن قدرتك . .

ويبدو لنا أن هذا الرأى أقرب إلى الصواب ، لأنه هو المناسب لسياق القصة ، ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية : " ثم كر موسى على امتنان فرعون عليه بالتربية فأبطله من أصله ، واستأصله من سِنْخِه - أى : من أساسه - ، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة . حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل ، لأن تعبيدهم وقصدهم بالذبح لأبنائهم هو السبب فى حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه ، وتذليلهم واتخاذهم خدما له . . . " .

وبهذا الجواب التوبيخى أفحم موسى - عليه السلام - فرعون . وجعله يحول الحديث عن هذه المسألة التى تتعلق بتربيته لموسى إلى الحديث عن شىء آخر حكاه القرآن فى قوله : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَتِلۡكَ نِعۡمَةٞ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (22)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّهَا عَلَيّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مّوقِنِينَ } .

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون وَتِلكَ نِعْمَةٌ تَمُنّها عَليّ يعني بقوله : وتلك تربية فرعون إياه ، يقول : وتربيتك إياي ، وتركك استعبادي ، كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ بحقّ . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه ، وهو : وتلك نعمة تمنها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل وتركتني ، فلم تستعبدني ، فترك ذكر «وتركتني » لدلالة قوله أن عبّدتّ بني إسرائيل عليه ، والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام ، ونظير ذلك في الكلام أن يستحقّ رجلان من ذي سلطان عقوبة ، فيعاقب أحدهما ، ويعفو عن الاَخر ، فيقول المعفوّ عنه هذه نعمة عليّ من الأمير أن عاقب فلانا ، وتركني ، ثم حذف «وتركني » لدلالة الكلام عليه ، ولأن في قوله : أنْ عبّدتّ بَنِي إسْرائِيلَ وجهين : أحدهما النصب ، لتعلق «تمنها » بها ، وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها عليّ لتعبدك بني إسرائيل . والاَخر : الرفع على أنها ردّ على النعمة . وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها عليّ تعبيدك بني إسرائيل . ويعني بقوله : أنْ عَبّدتّ بَنِي إسْرَائِيلَ : أن اتخذتهم عبيدا لك . يقال منه : عبدت العبيد وأعبدتهم ، قال الشاعر :

عَلامَ يُعْبِدنِي قَوْمِي وقدْ كَثُرَتْ *** فِيها أباعِرُ ما شاءُوا وَعُبْدَانُ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد تمُنّها عَليّ أنْ عَبّدتّ بَنِي إسْرَائِيلَ قال : قهرتهم واستعملتهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : تمن عليّ أن عبّدت بني إسرائيل ، قال : قهرت وغلبت واستعملت بني إسرائيل .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّها عَليّ أنْ عَبّدتّ بَنِي إسْرَائِيلَ وربيتني قبل وليدا .

وقال آخرون : هذا استفهام كان من موسى لفرعون ، كأنه قال : أتمنّ عليّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيدا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّها عَليّ قال : يقول موسى لفرعون : أتمنّ عليّ أن اتخذت أنت بني إسرائيل عبيدا .

واختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : وتلك نعمة تمنها عليّ ، فيقال : هذا استفهام كأنه قال : أتمنها عليّ ؟ ثم فسر فقال : أنْ عَبّدتّ بَنِي إسْرَائِيلَ وجعله بدلاً من النعمة . وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول ، ويقول : هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقي ، وهو يطلب ، فيكون الاستفهام كالخبر ، قال : وقد استقبح ومعه أم ، وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا :

تَرُوحُ منَ الحَيّ أمْ تَبْتَكرْ *** وَماذاَ يَضُرّكَ لَوْ تَنْتَظرْ ؟

قال : وقال بعضهم : هو أتروح من الحيّ ، وحذف الاستفهام أوّلا اكتفاء بأم . وقال أكثرهم : بل الأوّل خبر ، والثاني استفهام ، وكأن «أم » إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف ، فأما وليس معه أم ، فلم يقله إنسان . وقال بعض نحويي الكوفة في ذلك ما قلنا . وقال : معنى الكلام : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي : أي لنعمة تربيتي لك ، فأجابه فقال : نعم هي نعمة عليّ أن عبّدت الناس ولم تستعبدني .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَتِلۡكَ نِعۡمَةٞ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (22)

ثم حاجه عليه السلام في منه عليه بالتربية وترك القتل بقوله { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } ، واختلف الناس في تأويل هذا الكلام ، فقال قتادة هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة كأنه يقول أو يصح لك أن تعتمد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلهم ، أي ليست نعمة لأن الواجب كان ألا يقتلني وألا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك ، وقرأ الضحاك «وتلك نعمة ما لك أن تمنها » ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ، وقال الأخفش قيل ألف الاستفهام محذوفة والمعنى «أو تلك » وهذا لا يجوز إلا إذا عادلتها أم كما قال «تروح من الحي أم تبتكر »{[8918]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول تكلف{[8919]} ، قول موسى عليه السلام تقرير بغير ألف وهو صحيح كما قال قتادة والله المعين ، وقال السدي والطبري هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة ، كأنه يقول تربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني ولكن ذلك لا يدفع رسالتي{[8920]} .

قال القاضي أبو محمد : ولكل وجه ناحية من الاحتجاج فالأول ماض في طريق المخالفة لفرعون ونقض كلامه كله ، والثاني مبد من موسى عليه السلام أنه منصف من نفسه معترف بالحق ، ومتى حصل أحد المجادلين في هذه الرتبة وكان خصمه في ضدها غلب المتصف بذلك وصار قوله أوقع في النفوس .


[8918]:القائل هو امرؤ القيس، وهذا صدر بيت من قصيدة قالها يصف فرسه وخروجه إلى الصيد، والبيت بتمامه: تروح من الحي أم تبتكر وماذا عليك بأن تنتظر؟ والرواح: السير في العشي، والابتكار: الخروج مبكرا، يقول: أتروح في آخر النهار أم تخرج مبكرا؟ ولماذا تتعجل الذهاب ؟ وماذا عليك لو انتظرت فالانتظار خير لك؟ والشاهد حذف ألف الاستفهام في (تروح)، إذ أصلها: أتروح؟ والدليل هو وجود (أم) في الكلام.
[8919]:قال النحاس: وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام (أم)، ولكن الفراء قال: يجوز حذف ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكى: ترى زيد منطلقا؟ بمعنى: أترى، وعلق علي بن سليمان على كلام الفراء بقوله:إنما أخذه من ألفاظ العامة، وقال الثعلبي حكاية عن الفراء: إن الآية إنكار من موسى عليه السلام على طريق الاستفهام الذي حذفت ألفه، كقوله تعالى: {هذا ربي} وقوله: {فهم الخالدون}، وكقول الشاعر: رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه: هم هم؟ وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الألف قولهم: لم أنس يوم الرحيل وقفتها وجفنها من دموعها شرق وقولها والركاب واقفة تركتني هكذا وتنطلق؟ قال القرطبي: ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم (أم) خلاف قول النحاس.
[8920]:وهناك رأي ثالث قاله الضحاك وهو أن الكلام خرج مخرج التبكيت، والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي؟ فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به؟.