وبعد أن أمرهم - سبحانه - بأصل الدين الذي هو الإِيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أردفه بركنين من أركانه العملية ، إذا قاموا بهما لانت قلوبهم للحق ، وانعطفت نفوسهم نحو خشية الله وحده ، فقال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين } والمراد بإقامة الصلاة ، أداؤها مستوفية لأركانها وشرائطها وآدابها . والمراد بإيتاء الزكاة دفعها لمستحقيها كالمة غير منقوصة .
والمعنى : عليكم يا معشر اليهود أن تحافظوا على أداء الصلاة ، التي هي أعظم العبادات البدنية ، وعلى إيتاء الزكاة التي هي أعظم العبادات المالية ، وأن تخضعوا لما يلزمكم في دين الله - تعالى - لأن في محافظتكم على هذه العبادات تطهيراً لقلوبكم ، وتأليفاً لنفوسكم ، وتزكية لمشاعركم ، ولأنكم إن لم تحافظوا عليها كما أمركم الله - تعالى - فسيلحقكم الخزي في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ }
قال أبو جعفر : ذكر أن أحبار اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدّقين بمحمد وبما جاء به ، وإيتاء زكاة أموالهم معهم وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : وأقيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ قال : فريضتان واجبتان ، فأدّوهما إلى الله . وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته .
أما إيتاء الزكاة : فهو أداء الصدقة المفروضة وأصل الزكاة : نماء المال وتثميره وزيادته . ومن ذلك قيل : زكا الزرع : إذا كثر ما أخرج الله منه ، وزكت النفقة : إذا كثرت . وقيل : زكا الفرد ، إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفعا ، كما قال الشاعر :
كانُوا خَسا أوْ زَكا مِنْ دُونِ أرْبَعَةٍ *** لَم يَخْلَقُوا وَجُدُودُ النّاسُ تَعْتَلِجُ
فَلا خَسا عَدِيدُهُ ولا زَكا *** كمَا شِرارُ البَقْلِ أطْرافُ السّفَا
قال أبو جعفر : السفا : شوك البهمي ، والبهمي : الذي يكون مدوّرا في السّلى . يعني بقوله : «ولا زكا » لم يصيرهم شفعا من وتر بحدوثه فيهم .
وإنما قيل للزكاة زكاة وهي مال يخرج من مال لتثمير الله بإخراجها مما أخرجت منه ما بقي عند ربّ المال من ماله . وقد يحتمل أن تكون سميت زكاة لأنها تطهير لما بقي من مال الرجل ، وتخليص له من أن تكون فيه مظلمة لأهل السهمان ، كما قال جل ثناؤه مخبرا عن نبيه موسى صلوات الله عليه : أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً يعني بريئة من الذنوب طاهرة ، وكما يقال للرجل : هو عدل زكىّ لذلك المعنى .
وهذا الوجه أعجب إليّ في تأويل زكاة المال من الوجه الأوّل ، وإن كان الأوّل مقبولاً في تأويلها . وإيتاؤها : إعطاؤها أهلها .
وأما تأويل الركوع : فهو الخضوع لله بالطاعة ، يقال منه : ركع فلان لكذا وكذا : إذا خضع له ، ومنه قول الشاعر :
بِيعَتْ بِكَسْرٍ لتَيْمٍ واسْتَغَاثَ بها *** مِنَ الهُزَالِ أبُوها بَعْدَمَا رَكَعا
يعني : بعد ما خضع من شدّة الجهد والحاجة . وهذا أمر من الله جل ثناؤه لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه ، وبإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والدخول مع المسلمين في الإسلام ، والخضوع له بالطاعة . ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بعد تظاهر حججه عليهم بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا ، وبعد الإعذار إليهم والإنذار ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطفا منه بذلك عليهم وإبلاغا إليهم في المعذرة .
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } يعني صلاة المسلمين وزكاتهم فإن غيرهما كلا صلاة ولا زكاة . أمرهم بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بها . و{ الزكاة } من زكا الزرع ، إذا نما ، فإن أخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم . أو من الزكاة بمعنى : الطهارة ، فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل .
{ واركعوا مع الراكعين } أي في جماعتهم ، فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس ، وعبر عن الصلاة بالركوع احترازا عن صلاة اليهود . وقيل الركوع : الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع ، قال الأضبط السعدي :
أمرٌ بالتلبس بشعار الإسلام عقب الأمر باعتقاد عقيدة الإسلام فقولُه : { وآمنوا بما أنزلت } [ البقرة : 41 ] الآية راجع إلى الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم وما هو وسيلة ذلك وما هو غايته ، فالوسيلة { اذْكروا نعمتي- إلى- فارهبون } [ البقرة : 40 ] والمقصدُ { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم } ، والغاية { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . وقد تخلل ذلك نهي عن مفاسد تصدهم عن المأمورات مناسباتٍ للأوامر . فقوله : { وأقيموا الصلاة } إلخ أمر بأعظم القواعد الإسلامية بعد الإيمان والنطق بكلمة الإسلام ، وفيه تعريض بحسن الظن بإجابتهم وامتثالهم للأوامر السالفة وأنهم كملت لهم الأمور المطلوبة . وفي هذا الأمر تعريض بالمنافقين ، ذلك أن الإيمان عقد قلبي لا يدل عليه إلا النطق ، والنطقُ اللساني أمر سهل قد يقتحمه من لم يعتقد إذا لم يكن ذا غلو في دينه فلا يتحرج أن ينطق بكلام يخالف الدين إذا كان غير معتقد مدلوله كما قال تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] الآية ، فلذلك أمروا بالصلاة والزكاة لأن الأولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود إليه وخلع الآلهة ، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لأنه يغيظ آلهته بالفعل وبقول الله أكبر ولا يفعله الكتابي لأنه يخالف عبادته ، ولأن الزكاة إنفاق المال وهو عزيز على النفس فلا يبذله المرء في غير ما ينفعه إلا عن اعتقاد نفع أخروي لا سيما إذا كان ذلك المال ينفق على العدو في الدين ، فلذلك عقب الأمر بالإيمان بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما لا يتجشمهما إلا مؤمن صادق . ولذلك جاء في المنافقين { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } [ النساء : 142 ] وقوله : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } [ الماعون : 4 ، 5 ] وفي « الصحيح » أن صلاة العشاء أثقل صلاة على المنافقين .
وفي هذه الآية دليل لمالك على قتل من يمتنع من أداء الصلاة مع تحقق أنه لم يؤدها من أول وقت صلاة من الصلوات إلى خروجه إذا كان وقتاً متفقاً بين علماء الإسلام ، لأنه جَعل ذلك الامتناع مع عدم العذر دليلاً على انتفاء إيمانه ، لكنه لما كان مصرحاً بالإيمان قال مالك : إنه يقتل حداً جمعاً بين الأدلة ومنعها لذريعة خرم الملة . ويوشك أن يكون هذا دليلاً لمن قالوا بأن تارك الصلاة كافر لولا الأدلة المعارضة .
وفيها دليل لما فعل أبو بكر رضي الله عنه من قتال مانعي الزكاة وإطلاق اسم المرتدين عليهم ؛ لأن الله جعل الصلاة والزكاة أمارة صدق الإيمان إذ قال لبني إسرائيل { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ولهذا قال أبو بكر لما راجعه عمر في عزمه على قتال أهل الردة حين منعوا إعطاء الزكاة وقال له : كيف تقاتلهم وقد قالوا : لا إله إلا الله وقد قال رسول الله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فقال أبو بكر : لآقاتلن من فَرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ، فحصل من عبارته على إيجازها جواب عن دليل عمر .
وقوله : { واركعوا مع الراكعين } تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله : { واركعوا مع الراكعين } .
والركوع طأْطأَة وانحناء الظهر لقصد التعظيم أو التبجيل ، وقد كانت العرب تفعله لبعض كبرائهم ، قال الأعشى :
إذا مَا أتانا أبو مالك *** رَكَعْنَا له وخَلَعْنا العِمَامه
( وروي سجدنا له وخلعنا العمارا ، والعمار هو العمامة ) .
وقوله : { مع الراكعين } إيماء إلى وجوب ممثالة المسلمين في أداء شعائر الإسلام المفروضة فالمراد بالراكعين المسلمون وفيه إشارة إلى الإتيان بالصلاة بأركانها وشرائطها .