ثم حكى القرآن أنهم ترقوا فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب الجزيل ، والعطاء الحسن فقال - تعالى - حكاية عنهم { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } .
أي نسألك يا ربنا أن تعطينا وتمنحنا بعد وفاتنا ، وحين قيامنا من قبورنا يوم القيامة ، ما وعدتنا به من ثواب فى مقابل تصديقنا لرسلك ، وطاعتنا لهم ، واستجابتنا لأوامرهم ونواهيهم { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } أى ولا تذلنا ولا تفضحنا يوم المحشر على رءوس الأشهاد { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } . أى أنك - سبحانك - لا تخلف وعدك الذى وعدته لعبادك الصالحين .
فهم قد جعلوا هذا الدعاء وهو طلب الثواب الجزيل يوم القيامة ، ختاما لدعواتهم ، لشعورهم بهفواتهم وبتقصيرهم أمام فضل الله ونعمه .
والمراد بقولهم { مَا وَعَدتَّنَا } الثواب والعطاء الكائن منه - سبحانه - و " ما " موصولة أى آتنا الذى وعدتنا به أو وعدتنا إياه .
وقوله { على رُسُلِكَ } فيه مضاف محذوف أى آتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من ثواب . أو آتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك والإيمان بهم من جزاء حسن .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد ؟ .
قلت : معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد ، أو هو من باب الملجأ إلى الله والخضوع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، " يستغفرون مع علمهم بأنهم مغفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل لربهم ، والتضرع إليه ، والملجأ الذى هو سيما العبودية " .
تلك هى الدعوات الخاشعات التى حكاها - سبحانه - عن أصحاب العقول السليمة ، وهم يتضرعون بها إلى خالقهم - عز وجل - فماذا كانت نتيجتها ؟
{ رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } .
إن قال لنا قائل : وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربهم أن يؤتيهم ما وعدهم ، وقد علموا أن الله منجز وعده ، وغير جائز أن يكون منه إخلاف موعد ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل البحث ، فقال بعضهم : ذلك قول خرج مخرج المسألة ، ومعناه الخبر ، قالوا : وإنما تأويل الكلام : ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار ، لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، قالوا : وليس ذلك على أنهم قالوا : إن توفيتنا مع الأبرار فانجز لنا ما وعدتنا لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد ، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء ، ولكنه تفضل بإيتائه ، ثم ينجزه .
وقال آخرون : بل ذلك قول من قائله على معنى المسألة والدعاء لله ، بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله ، لا أنهم كانوا قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم ، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم ، فيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يخلف وعده ، قالوا : ولو كان القوم إنما سألوا ربهم أن يؤتيهم ما وعد الأبرار ، لكانوا قد زكوا أنفسهم ، وشهدوا لها أنها ممن قد استوجب كرامة الله وثوابه ، قالوا : وليس ذلك صفة أهل الفضل من المؤمنين .
وقال آخرون : بل قالوا هذا القول على وجه المسألة ، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر ، والظفر بهم ، وإعلاء كلمة الحق على الباطل ، فيعجل ذلك لهم ، قالوا : ومحال أن يكون القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد ، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك ، ولكنهم كانوا وعدوا النصر ، ولم يوقت لهم في تعجيل ذلك لهم ، لما في تعجله من سرور الظفر وراحة الجسد .
والذي هو أولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي : أن هذه الصفة ، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه وداره ، مفارقا لأهل الشرك بالله إلى الله ورسوله ، وغيرهم من تباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم ، فقالوا : ربنا آتنا ما وعدتنا من نصرتك عليهم عاجلاً ، فإنك لا تخلف الميعاد ، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم ، فعجل حربهم ، ولنا الظفر عليهم . يدل على صحة ذلك آخر الاَية الأخرى ، وهو قوله : { فاسْتَجابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فالّذِينَ هاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأُوذُوا في سَبِيلي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا } . . . الاَيات بعدها . وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيت قولهم في شيء ، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب أن يقال : افعل بنا يا رب كذا وكذا ، بمعنى : افعل بنا لكذا الذي ولو جاز ذلك ، لجاز أن يقول القائل لاَخر : أقبل إليّ وكلمني ، بمعنى : أقبل إليّ لتكلمني ، وذلك غير موجود في الكلام ، ولا معروف جوازه ، وكذلك أيضا غير معروف في الكلام : آتنا ما وعدتنا ، بمعنى : اجعلنا ممن آتيته ذلك وإن كان كلّ من أعطى شيئا سنيا فقد صير نظيرا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه ، ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك ، وإن كان قد يؤول معناه إليه .
فتأويل الكلام إذًا : ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك أنك تعلى كلمتك كلمة الحق ، بتأييدنا على من كفر بك وحادّك وعبد غيرك ، وعجّل لنا ذلك ، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، فتفضحنا بذنوبنا التي سلكت منا ، ولكن كفّرها عنا واغفرها لنا . وقد :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { رَبّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا على رُسُلِكَ } قال : يستنجز موعود الله على رسله .
{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أي ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب . لما أظهر امتثاله لما أمر به سأل ما وعد عليه لا خوفا من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء عاقبة ، أو قصور في الامتثال أو تعبدا واستكانة . ويجوز أن يعلق على بمحذوف تقديره : ما وعدتنا منزلا على رسلك ، أو محمولا عليهم . وقيل معناه على ألسنة رسلك . { ولا تخزنا يوم القيامة } بأن تعصمنا عما يقتضيه . { إنك لا تخلف الميعاد } بإثابة المؤمن وإجابة الداعي وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الميعاد البعث بعد الموت . وتكرير ربنا للمبالغة في الابتهال والدلالة على أن استقلال المطالب وعلو شأنها . وفي الآثار ( من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف ) .
وقوله : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } معناه : على ألسنة رسلك ، وقرأ الأعمش «رسْلك » بسكون السين ، وطلبوا من الله تعالى إنجاز الوعد ، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه ، فالطلبة والتخويف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا ، فمعنى قول المرء : اللهم أنجز لي وعدك ، إنما معناه : اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد ، وقيل : معنى دعائهم الاستعجال مع ثقتهم بأن الوعد منجز ، وقال الطبري وغيره : معنى الآية ما وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما هي في حكم الدنيا ، وقولهم : { ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } ، إشارة إلى قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه }{[3798]} فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود{[3799]} .
لمّا سألوا أسباب المثوبة في الدنيا والآخرة ترقّوا في السؤال إلى طلب تحقيق المثوبة ، فقالوا : { وآتنا ما وعدتنا على رسلك } .
وتحتمل كلمة ( على ) أن تكون لتعدية فعل الوعد ، ومعناها التعليل فيكون الرسل هم الموعود عليهم ، ومعنى الوعد على الرسل أنّه وعد على تصديقهم فتعيّن تقدير مضاف ، وتحتمل أن تكون ( على ) ظرفاً مستقرّاً ، أي وعداً كائناً على رُسلك أي ، منزلاً عليهم ، ومتعلَّق الجار في مثله كونٌ غير عامّ بل هو كون خاصّ ، ولا ضير في ذلك إذا قامت القرينة ، ومعنى ( على ) حينئذ الاستعلاء المجازي ، أو تجعل ( على ) ظرفاً مستقرّاً حالاً { ممّا وعدتنا } أيضاً ، بتقدير كون عامّ لكن مع تقدير مضاف إلى رسلك ، أي على ألْسِنَةِ رسلك .
والموعود على ألسنة الرسل أو على التصديق بهم الأظهر أنّه ثواب الآخرة وثواب الدنيا : لقوله تعالى : { فآتاهم اللَّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } [ آل عمران : 148 ] وقوله : { وعد اللَّه الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } [ النور : 55 ] الآية ، وقوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] . والمراد بالرسل في قوله : { على رسلك } خصوص محمد صلى الله عليه وسلم أطلق عليه وصف « رسل » تعظيماً لقوله تعالى : { فلا تحسبن اللَّه مخلف وعده رسله } [ إبراهيم : 47 ] . ومنه قوله تعالى : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } [ الفرقان : 37 ] .
فإن قلتَ : إذا كانوا عالمين بأنّ الله وعدهم ذلك وبأنَّه لا يخلف الميعاد فما فائدة سُؤالهم ذلك في دعائهم ؟ قلت : له وجوه : أحدها : أنّهم سألوا ذلك ليكون حصوله أمارة على حصول قُبول الأعمال التي وعد الله عليها بما سألوه فقد يظنّون أنفسهم آتين بما يبلّغهم تلك المرتبة ويخشون لعلّهم قد خلطوا أعمالهم الصالحة بما يبطلها ، ولعلّ هذا هو السبب في مجيء الواو في قولهم : { وآتنا ما وعدتنا } دون الفاء إذ جعلوه دعوة مستقلّة لتتحقّق ويتحقّق سببها ، ولم يجعلوها نتيجة فعل مقطوع بحصوله . ويدلّ لصحّة هذا التأويل قوله بعدُ : { فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم } [ آل عمران : 195 ] مع أنّهم لم يطلبوا هنا عدم إضاعة أعمالهم .
الثاني : قال في « الكشّاف » : أرادوا طلب التوفيق إلى أسباب ما وعدهم الله على رسله . فالكلام مستعمل كناية عن سبب ذلك من التوفيق للأعمال الموعود عليها .
الثالث : قال فيه ما حاصله : أن يكون هذا من باب الأدب مع الله حتّى لا يظهروا بمظهر المستحقّ لتحصيل الموعود به تذلّلاً ، أي كسؤال الرسل عليهم السلام المغفرة وقد علموا أنّ الله غفر لهم .
الرابع : أجاب القرافي في الفرق ( 273 ) بأنّهم سألوا ذلك لأنّ حصوله مشروط بالوفاة على الإيمان ، وقد يؤيّد هذا بأنّهم قدّموا قبله قولهم : { وتوقنا مع الأبرار } لكن هذا الجواب يقتضي قصر الموعود به على ثواب الآخرة ، وأعادوا سؤال النجاة من خزي يوم القيامة لشدّته عليهم .
الخامس : أنّ الموعود الذي سألوه هو النصر على العدوّ خاصّة ، فالدعاء بقولهم : { وآتنا ما وعدتنا على رسلك } مقصود منه تعجيل ذلك لهم ، يعني أنّ الوعد كان لمجموع الأمّة ، فكلّ واحد إذا دعا بهذا فإنّما يعني أن يجعله الله ممَّن يرى مصداق وعد الله تعالى خشية أن يفوتهم . وهذا كقول خبّاب بن الأرتّ : هاجرنا مع النبي نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمِنَّا مَن أيْنَعَتْ له ثمرته فهو يهدبُها ، ومنَّا من مات لم يأكُل من أجره شيئاً ، منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحُد ، فلم نجد له ما نكفّنه إلاّ بُردة » إلخ .
وقد ابتدأوا دعاءهم وخلّلوه بندائه تعالى : خمس مرات إظهار للحاجة إلى إقبال الله عليهم . وعن جعفر بن محمد رضي الله عنه « مَن حَزبه أمر فقال : يا ربّ خمس مرات أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد » ، واقرأوا : { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً } إلى قوله : { إنك لا تخلف الميعاد } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قالوا: {ربنا وآتنا}، يعني وأعطنا {ما وعدتنا على رسلك}، يقول: أعطنا من الجنة ما وعدتنا على ألسنة رسلك، {ولا تخزنا}، يعني ولا تعذبنا {يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن قال لنا قائل: وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربهم أن يؤتيهم ما وعدهم، وقد علموا أن الله منجز وعده، وغير جائز أن يكون منه إخلاف موعد؟ قيل: اختلف في ذلك أهل البحث؛
فقال بعضهم: ذلك قول خرج مخرج المسألة، ومعناه الخبر، قالوا: وإنما تأويل الكلام: ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، قالوا: وليس ذلك على أنهم قالوا: إن توفيتنا مع الأبرار فانجز لنا ما وعدتنا، لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء، ولكنه تفضل بإيتائه، ثم ينجزه.
وقال آخرون: بل ذلك قول من قائله على معنى المسألة والدعاء لله، بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله، لا أنهم كانوا قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم، فيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يخلف وعده، قالوا: ولو كان القوم إنما سألوا ربهم أن يؤتيهم ما وعد الأبرار، لكانوا قد زكوا أنفسهم، وشهدوا لها أنها ممن قد استوجب كرامة الله وثوابه، قالوا: وليس ذلك صفة أهل الفضل من المؤمنين.
وقال آخرون: بل قالوا هذا القول على وجه المسألة، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر، والظفر بهم، وإعلاء كلمة الحق على الباطل، فيعجل ذلك لهم، قالوا: ومحال أن يكون القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك، ولكنهم كانوا وعدوا النصر، ولم يوقت لهم في تعجيل ذلك لهم، لما في تعجله من سرور الظفر وراحة الجسد.
والذي هو أولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي: أن هذه الصفة، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه وداره، مفارقا لأهل الشرك بالله إلى الله ورسوله، وغيرهم من تباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم، فقالوا: ربنا آتنا ما وعدتنا من نصرتك عليهم عاجلاً، فإنك لا تخلف الميعاد، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم، فعجل حربهم، ولنا الظفر عليهم. يدل على صحة ذلك آخر الآية الأخرى، وهو قوله: {فاسْتَجابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فالّذِينَ هاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأُوذُوا في سَبِيلي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا}... الآيات بعدها. وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيت قولهم في شيء، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب أن يقال: افعل بنا يا رب كذا وكذا، بمعنى: افعل بنا لكذا الذي ولو جاز ذلك، لجاز أن يقول القائل لآخر: أقبل إليّ وكلمني، بمعنى: أقبل إليّ لتكلمني، وذلك غير موجود في الكلام، ولا معروف جوازه، وكذلك أيضا غير معروف في الكلام: آتنا ما وعدتنا، بمعنى: اجعلنا ممن آتيته ذلك وإن كان كلّ من أعطى شيئا سنيا فقد صير نظيرا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه، ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك، وإن كان قد يؤول معناه إليه.
فتأويل الكلام إذًا: ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك أنك تعلى كلمتك كلمة الحق، بتأييدنا على من كفر بك وحادّك وعبد غيرك، وعجّل لنا ذلك، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك، ولا تخزنا يوم القيامة، فتفضحنا بذنوبنا التي سلفت منا، ولكن كفّرها عنا واغفرها لنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: ما وعدتنا على تصديق رسلك. ألا تراه كيف أتبع ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول وقوله آمنا وهو التصديق ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف، أي ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك، لأن الرسل محملون ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ} [النور: 54] وقيل: على ألسنة رسلك. والموعود هو الثواب. وقيل: النصرة على الأعداء. فإن قلت: كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد الله لا يخلف الميعاد؟ قلت: معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، أو هو باب من اللجأ إلى الله والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع إليه، واللجأ الذي هو سيما العبودية.
... ههنا سؤال آخر: وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة، فقوله: {أتنا ما وعدتنا على رسلك} طلب للثواب، فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب؟ وهو قوله: {ولا تخزنا يوم القيامة} بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما. والجواب من وجهين: الأول: أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله: {آتنا ما وعدتنا على رسلك} المراد منه المنافع، وقوله: {ولا تخزنا} المراد منه التعظيم، الثاني: أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية، وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل: وفقنا للطاعات، وإذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك، والحاصل كأنه قيل: وفقنا لطاعتك فإنا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك، وإذا وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فإنا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك، وهو إشارة إلى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال، ولا فعل من الأفعال، ولا لمحة ولا حركة إلا بإعانة الله وتوفيقه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) أي أعطنا ما وعدتنا من الجزاء الحسن كالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة- وخصه بعضهم بالدنيا وبعضهم بالآخرة- جزاء على تصديق رسلك وأتباعهم، إذ استجبنا لهم وآمنا بما جاؤوا به، أو ما وعدتنا به منزلا على رسلك، أو ما وعدتنا به على ألسنة رسلك. والمعنى أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحقه إلى أن تتوفانا مع الأبرار، وهذه الغاية بالنسبة إلى جزاء الآخرة. وفيه هضم لنفوسهم واستشعار تقصيرها وعدم الثقة بثباتها إلا بتوفيقه وعنايته عز وجل. وقيل إن الدعاء لإظهار العبودية فقط.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما ذكروا توفيق الله إياهم للإيمان، وتوسلهم به إلى تمام النعمة، سألوه الثواب على ذلك، وأن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر، والظهور في الدنيا، ومن الفوز برضوان الله وجنته في الآخرة، فإنه تعالى لا يخلف الميعاد، فأجاب الله دعاءهم، وقبل تضرعهم، فلهذا قال:...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وختام هذا الدعاء. توجه ورجاء. واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد:
(ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد)
فهو استنجاز لوعد الله، الذي بلغته الرسل، وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد، ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة، يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء، ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه. مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله.
والدعاء في مجموعة يمثل الاستجابة الصادقة العميقة، لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه، في القلوب السليمة المفتوحة..
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء، من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء..
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها -والقوافي في القرآن غيرها في الشعر، فيه ليست حرفا متحدا، ولكنها إيقاع متشابه- مثل:"بصير. حكيم. مبين. مريب".. "الألباب، الأبصار، النار. قرار".. "خفيا. شقيا. شرقيا. شيئا."... إلخ.
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير. والثانية في مواضع الدعاء. والثالثة في مواضع الحكاية.
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى. ولم تبعد عنها إلا في موضعين: أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء. والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد..
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني.. فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية، وعذوبة صوتية. تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال.
وهناك ظاهرة فنية أخرى.. إن عرض هذا المشهد: مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم، عميق النبرات. فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته، على الأعصاب والأسماع والخيال، فيؤثر في الوجدان، بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف.. وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني، ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لمّا سألوا أسباب المثوبة في الدنيا والآخرة ترقّوا في السؤال إلى طلب تحقيق المثوبة، فقالوا: {وآتنا ما وعدتنا على رسلك}.
وتحتمل كلمة (على) أن تكون لتعدية فعل الوعد، ومعناها التعليل فيكون الرسل هم الموعود عليهم، ومعنى الوعد على الرسل أنّه وعد على تصديقهم فتعيّن تقدير مضاف، وتحتمل أن تكون (على) ظرفاً مستقرّاً، أي وعداً كائناً على رُسلك أي، منزلاً عليهم، ومتعلَّق الجار في مثله كونٌ غير عامّ بل هو كون خاصّ، ولا ضير في ذلك إذا قامت القرينة، ومعنى (على) حينئذ الاستعلاء المجازي، أو تجعل (على) ظرفاً مستقرّاً حالاً {ممّا وعدتنا} أيضاً، بتقدير كون عامّ لكن مع تقدير مضاف إلى رسلك، أي على ألْسِنَةِ رسلك.
والموعود على ألسنة الرسل أو على التصديق بهم الأظهر أنّه ثواب الآخرة وثواب الدنيا: لقوله تعالى: {فآتاهم اللَّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة} [آل عمران: 148] وقوله: {وعد اللَّه الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} [النور: 55] الآية، وقوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105]. والمراد بالرسل في قوله: {على رسلك} خصوص محمد صلى الله عليه وسلم أطلق عليه وصف « رسل» تعظيماً لقوله تعالى: {فلا تحسبن اللَّه مخلف وعده رسله} [إبراهيم: 47]. ومنه قوله تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37].
فإن قلتَ: إذا كانوا عالمين بأنّ الله وعدهم ذلك وبأنَّه لا يخلف الميعاد فما فائدة سُؤالهم ذلك في دعائهم؟ قلت: له وجوه: أحدها: أنّهم سألوا ذلك ليكون حصوله أمارة على حصول قُبول الأعمال التي وعد الله عليها بما سألوه فقد يظنّون أنفسهم آتين بما يبلّغهم تلك المرتبة ويخشون لعلّهم قد خلطوا أعمالهم الصالحة بما يبطلها، ولعلّ هذا هو السبب في مجيء الواو في قولهم: {وآتنا ما وعدتنا} دون الفاء إذ جعلوه دعوة مستقلّة لتتحقّق ويتحقّق سببها، ولم يجعلوها نتيجة فعل مقطوع بحصوله. ويدلّ لصحّة هذا التأويل قوله بعدُ: {فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم} [آل عمران: 195] مع أنّهم لم يطلبوا هنا عدم إضاعة أعمالهم.
الثاني: قال في « الكشّاف»: أرادوا طلب التوفيق إلى أسباب ما وعدهم الله على رسله. فالكلام مستعمل كناية عن سبب ذلك من التوفيق للأعمال الموعود عليها.
الثالث: قال فيه ما حاصله: أن يكون هذا من باب الأدب مع الله حتّى لا يظهروا بمظهر المستحقّ لتحصيل الموعود به تذلّلاً، أي كسؤال الرسل عليهم السلام المغفرة وقد علموا أنّ الله غفر لهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ إن هؤلاء العقلاء يطلبون من ربّهم في نهاية المطاف، وبعد أن يسلكوا طريق الإِيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إِليهم، أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون: (ربّنا أتنا ما وعدتنا على رسلك) أي ربّنا لقد وفينا بالتزاماتنا، فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة: (ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد).
إِنّ التركيز على «الخزي» يؤكّد مرّة أخرى هذه الحقيقة الهامّة، وهي أن هؤلاء بسبب ما يرون لشخصيتهم من أهمية واحترام يعتبرون «الخزي» من أشد ما يلحق بالإِنسان من الأذى، ولهذا يركزون عليه دون سواه من ألوان العقوبات.
...ومن الواضح الذي لا يخفى أن التأثير الواقعي والعميق لهذه الآيات، إِنما يتحقق إِذا وافق اللسان في ما يقوله القلب والعمل، وأن يحل مضمون هذه الآيات الذي يكشف عن طريقة تفكير أولي الألباب وشدّة حبّهم لله، وإِحساسهم بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم، والقيام بواجباتهم، في فؤاد قارئها وقلبه، فيحصل له نفس ذلك الخضوع والخشوع الحاصل لأُولي الألباب عند مناجاتهم لله، وتضرعهم إليه.