{ وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } أى : محدقين محيطين بالعرش مصطفين بحافته وجوانبه . جمع حَافٍّ وهو المحدق بالشئ . يقال : حففت بالشئ إذا أحطت به ، مأخوذ من الحِفَاف وهو الجانب للشئ .
{ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أى : يمجدون ربهم بكل خير ، وينزهونه عن كل سوء . { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق } أى وقضى - سبحانه - بين العباد بالحق الذى لا يحوم حوله باطل . { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين } على قضائه بالحق ، وعلى مجازاته الذين أساءوا بما عملوا ، ومجازاته الذين أحسنوا بالحسنى .
وبعد . فهذا تفسير محرر لسورة " الزمر " نسأل الله - تعالى - : أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وترى يا محمد الملائكة محدقين من حول عرش الرحمن ، ويعني بالعرش : السرير . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَتَرَى المَلائِكَةَ حافّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ محدقين .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَتَرَى المَلائِكَةَ حافّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ قال : محدقين حول العرش ، قال : العرش : السرير .
واختلف أهل العربية في وجه دخول «مِنْ » في قوله : حافّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ والمعنى : حافّين حول العرش .
وفي قوله : وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت «مِنْ » في هذين الموضعين توكيدا ، والله أعلم ، كقولك : ما جاءني من أحد وقال غيره : قبل وحول وما أشبههما ظروف تدخل فيها «مِنْ » وتخرج ، نحو : أتيتك قبل زيد ، ومن قبل زيد ، وطفنا حولك ومن حولك ، وليس ذلك من نوع : ما جاءني من أحد ، لأن موضع «مِنْ » في قولهم : ما جاءني من أحد رفع ، وهو اسم .
والصواب من القول في ذلك عندي أن «مِنْ » في هذه الأماكن ، أعني في قوله مِنْ حَوْل العَرْشِ ومن قبلك ، وما أشبه ذلك ، وإن كانت دخلت على الظروف فإنها بمعنى التوكيد .
وقوله : يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول : يصلون حول عرش الله شكرا له والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح ، وتحذفها أحيانا ، فتقول : سبح بحمد الله ، وسبح حَمْدَ الله ، كما قال جلّ ثناؤه : سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى ، وقال في موضع آخر : فَسَبّحْ باسْم رَبّكَ العَظِيمِ .
وقوله : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ يقول : وقضى الله بين النبيين الذين جيء بهم ، والشهداء وأممها بالعدل ، فأسكن أهل الإيمان بالله ، وبما جاءت به رسله الجنة . وأهل الكفر به ، ومما جاءت به رسله النار . وَقِيلَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ يقول : وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي ابتدأ خلقهم الذي له الألوهية ، ومُلك جميع ما في السموات والأرض من الخلق من ملك وجنّ وإنس ، وغير ذلك من أصناف الخلق . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ . . . الاَية ، كلها قال : فتح أوّل الخلق بالحمد لله ، فقال : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وختم بالحمد فقال : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ .
{ وترى الملائكة حافين } محدقين . { من حول العرش } أي حوله و { من } مزيدة أو لابتداء الحفوف . { يسبحون بحمد ربهم } ملتبسين بحمده . والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى ، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به ، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق . { وقضي بينهم بالحق } أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة ، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم . { وقيل الحمد لله رب العالمين } أي على ما قضي بيننا بالحق . والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم .
ثم وصف حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به ، وقال قوم : واحد { حافين } حاف . وقالت فرقة : لا واحد لقوله : { حافين } لأن الواحد لا يكون حافاً ، إذ الحفوف :الإحداق بالشيء ، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب ، ومنه قول الشاعر [ ابن هرمة ] : [ الطويل ]
له لحظات عن حفافي سريره . . . إذا كرها فيها عقاب ونائل{[9942]}
أي : عن جانبيه . وقالت فرقة : { من } في قوله : { من حول } زائدة ، والصواب أنها لابتداء الغاية .
وقوله : { يسبحون بحمد ربهم }{[9943]} قالت فرقة : معناه : أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله . وقالت فرقة : تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره . قال الثعلبي : متلذذين لا متعبدين ولا مكلفين .
وقوله : { وقيل الحمد لله رب العالمين } ختم للأمر ، وقول جزم عند فصل القضاء ، أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ، ومن هذه الآية جعلت { الحمد لله رب العالمين } خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم . وقال قتادة : فتح الله أول الخلق بالحمد ، فقال : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض }{[9944]} [ الأنعام : 1 ] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية{[9945]} .
قال القاضي أبو محمد : وجعل الله { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 1 ] فاتحة كتابه ، فبه يبدأ كل أمر وبه يختم ، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن كما قال الشاعر : [ الطويل ]
وآخر شيء أنت في كل ضجعة . . . وأول شيء أنت عند هبوبي{[9946]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.