وأخيرا نرى سورة " سبأ " تختتم بهذه الآيات ، التى تصور تصويرا مؤثرا ، حالة الكافرين عندما يخرجون من قبولهم للبعث والحساب ، يعلوهم الهلع والفزع ، ويحال بينهم وبين ما يشيتهون ، لأن توبتهم جاءت فى غير أوانها . . . قال - تعالى - : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ . . . فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ } .
وجواب { لَوْ } محذوف . وكذلك مفعول { ترى } . والفزع : حالة من الخوف والرعب تعترى الإِنسان عندما يشعر بما يزعجه ويخفيه . والفوت : النجاة والمهرب ، وهذا الفزع للكافرين يكون عند خروجهم من قبورهم للبعث والحساب ، أو عند قبض أرواحهم .
أى : ولو ترى - أيها العاقل - حال الكافرين ، وقت خروجهم من قبورهم للحساب ، وقد اعتراهم الفزع والهلع . . لرأيت شيئا هائلا ، وأمرا عظيما . .
وقوله { فَلاَ فَوْتَ } أى : فلا مهرب لهم ولا نجاة يومئذ من الوقوف بين يدى الله - تعالى - للحساب ، ولمعاقبتهم على كفرهم وجحودهم . .
وقوله : { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } معطوف على { فَزِعُواْ } أى : فزعوا دون أن ينفعهم هذا الفزع ، وأخذوا ليلقوا مصيرهم السيئء من مكان قريب من موقف الحساب .
قال الآلوسى : والمراد بذكر قرب المكان ، سرعة نزول العذاب بهم والاستهانة بهم وبهلاكهم ، وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله - عز وجل - . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىَ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولو تَرى يا محمد إذ فزعوا .
واختلف أهل التأويل في المعنيين بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عُنِي بها هؤلاء المشركون الذين وصفهم تعالى ذكره بقوله : وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيّناتٍ قالُوا ما هَذَا إلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أنْ يَصُدّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ قال : وعُنِي بقوله : إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ عند نزول نقمة الله بهم في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ . . . إلى آخر الاَية ، قال : هذا من عذاب الدنيا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قال : هذا عذاب الدنيا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ . . . إلى آخر السورة ، قال : هؤلاء قتلى المشركين من أهل بدر ، نزلت فيهم هذه الاَية ، قال : وهم الذين بدّلوا نعمة الله كفرا ، وأحلّوا قومهم دارَ البوار جهنم ، أهل بدر من المشركين .
وقال آخرون : عنى بذلك جيش يخسف بهم ببيداء من الأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال : هم الجيش الذي يُخْسَف بهم بالبيداء ، يبقى منهم رجل يخبر الناس بما لقي أصحابه .
حدثنا عصام بن رَوّاد بن الجَرّاح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، قال : ثني منصور بن المعتمر ، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش ، قال : سمعت حُذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذَكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب . قال : «فبينما هم كذلك ، إذ خرج عليهم السّفْيانيّ من الوادي اليابس في فَورة ذلك ، حتى ينزل دمشق ، فيبعث جيشين : جيشا إلى المشرق ، وجيشا إلى المدينة ، حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة ، والبقعة الخبيثة ، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ، وَيَبْقُرون بها أكثر من مئة امرأة ، ويقتلون بها ثلاث مئة كبش من بني العباس ، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخَرّبون ما حولها ، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام ، فتخرج راية هذا من الكوفة ، فتلحق ذلك الجيش منها على الفئتين فيقتلونهم ، لا يفلت منهم مخبر ، ويستنقذون ما في أيديهم من السّبْي والغنائم ، ويخلي جيشه التالي بالمدينة ، فينهبونها ثلاثة أيام ولياليها ، ثم يخرجون متوجهين إلى مكة ، حتى إذا كانوا بالبيداء ، بعث الله جبريل ، فيقول : يا جبرائيل اذهب فأبدهم ، فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم ، فذلك قوله في سورة سبأ وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ . . . الاَية ، ولا ينفلت منهم إلاّ رجلان : أحدهما بشير ، والاَخر نذير ، وهما من جهينة ، فلذلك جاء القول :
*** وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبرُ اليَقِينُ ***
حدثنا محمد بن خلَف العسقلانيّ قال : سألت روّاد بن الجرّاح ، عن الحديث الذي حدث به عنه ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن ربعى ، عن حذيفة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عن قصة ذكرها في الفتن ، قال : فقلت له : أخبرني عن هذا الحديث سمعته من سفيان الثوريّ ؟ قال : لا ، قلت : فقرأته عليه ، قال : لا ، قلت : فقرىء عليه وأنت حاضر ؟ قال : لا ، قلت : فما قصته ، فما خبره ؟ قال : جاءني قوم فقالوا : معنا حديث عجيب ، أو كلام هذا معناه ، نقرؤه وتسمعه ، قلت لهم : هاتوه ، فقرءوه عليّ ، ثم ذهبوا فحدّثوا به عني ، أو كلام هذا معناه .
حدثني ببعض هذا الحديث محمد بن خلف ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبان ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن ربعى ، عن حُذيفة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، حديث طويل ، قال : رأيته في كتاب الحسين بن عليّ الصدائي ، عن شيخ ، عن روّاد ، عن سفيان بطوله .
وقال آخرون : بل عنى بذلك المشركون إذا فزعوا عند خروجهم من قبورهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قوله : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعوا قال : فزعوا يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم . وقال قتادة : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ حين عاينوا عذاب الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ابن معقل وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال : أفزعهم يوم القيامة فلم يفوتوا .
والذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك ، وأشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال : وعيد الله المشركين الذين كذّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه لأن الاَيات قبل هذه الاَية جاءت بالإخبار عنهم وعن أسبابهم ، وبوعيد الله إياهم مغبته ، وهذه الاَية في سياق تلك الاَيات ، فلأن يكون ذلك خبرا عن حالهم أشبه منه بأن يكون خبرا لما لم يجر له ذكر . وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ولو ترى يا محمد هؤلاء المشركين من قومك ، فتعاينهم حين فزعوا من معاينتهم عذاب الله فَلا فَوْتَ يقول فلا سبيل حينئذٍ أن يفوتوا بأنفسهم ، أو يعجزونا هربا ، وينجوا من عذابنا ، كما :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ يقول : فلا نجاة .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال : لا هرب .
وقوله : وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يقول : وأخذهم الله بعذابه من موضع قريب ، لأنهم حيث كانوا من الله قريب لا يبعدون عنه .
{ ولو ترى إذ فزعوا } عند الموت أو البعث أو يوم بدر ، وجواب { لو } محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا . { فلا فوت } فلا يفوتون الله بهرب أو تحصن . { وأخذوا من مكان قريب } من ظهر الأرض إلى باطنها ، أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى القليب ، والعطف على { فزعوا } أو لا فوت ويؤيده أنه قرئ " وأخذ " عطفا على محله أي : فلا فوت هناك وهناك أخذ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.