وبعد أن أشار - سبحانه - إلى علم الرسالة التى هيأ لها عيسى - عليه السلام - عقب ذلك ببيان القوم الذين أرسل إليهم فقال - تعالى -
{ وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ } أى أن الله - تعالى - سيجعل عيسى - عليه السلام - رسولا إلى بنى إسرائيل لكى يهديهم إلى الصراط المستقيم ، ولكى يبشرهم برسول يأتى من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وخص بنى إسرائيل بالذكر مع أن رسالة عيسى كانت إليهم وإلى من علمها من الرومان : لأن بنى إسرائيل خرج عيسى من بينهم فهو منهم ، ولأنهم هم الذين كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية ، وكانت دعوته بينهم وانبعث منهم إلى غيرهم ، فكان تخصيصهم بالذكر فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وفيه توبيخ لهم ، لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء ومع ذلك فقد كفر كثير منهم بعيسى وبغيره من رسل الله ، بل لم يكتفوا بالكفر وإنما آذوا أولئك الرسل الكرام وقتلوا فريقا منهم .
وقوله { وَرَسُولاً } منصوب بمضمر يقود إليه المعنى ، معطوف على { وَيُعَلِّمُهُ } أى يعلمه ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل .
وقوله { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } معمول لقوله { رَسُولاً } لما فيه من معنى النطق . كأنه قيل : ورسولا ناطقا بأنى قد جئتكم يا بنى إسرائيل بآية من ربكم .
والباء للملابسة وهي مع مدخولها فى محل الحال وقوله { مِّن رَّبِّكُمْ } متعلق بمحذوف صفة لآية . والمراد بالآية هنا المعجزات التى أكرمه الله بها .
أى : أن الله - تعالى - قد علم عيسى - عليه السلام - الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل مخبرا إياهم بأني رسول الله إليكم حال كوني ملتبسا مجيئي بالمعجزات الدالة على صدقى ، وهذه المعجزات ليست من عندى وإنما هى من عند ربكم .
ثم ذكر - سبحانه - خمسة أنواع من معجزات عيسى - عليه السلام - أما المعجزة الأولى فعبر عنها بقوله : { أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله } .
قال الألوسى : " وقوله { أني أَخْلُقُ لَكُمْ } . . الخ . . بدل من قوله { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } أو من { آيَةٍ } أو منصوب على المفعولية لمحذوف أى أعنى أنى أخلق لكم . . . أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أى أنى قد جئتكم بآية من ربكم هى أنى أخلق لكم . وقرأ نافع بكسر الهمزة على الاستئناف ، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الايجاد من العدم " .
والمعنى أن عيسى - عليه السلام - قد حكى الله - عنه أنه قال لبنى إسرائيل : لقد أرسلنى الله إليكم لأبلغكم دعوته ، ولآمركم بإخلاص العبادة له ، وقد أعطانى - سبحانه - من المعجزات ما يقنعكم بصدقى فيما أبلغه عن ربى ، ومن بين هذه المعجزات أنى أقدر على أن أصور لكم من الطين شيئاً صورته مثل صورة الطير ، فأنفخ فى ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا حقيقا ذا حياة بإذن الله أى بأمره وإرادته .
فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على ثلاثة أعمال : ثنتان منهما لعيسى وهما تصوير الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه .
أما الثالث فهو من صنع الله تعالى - وحده ألا وهو خلق الحياة فى هذه الصورة التى صورها عيسى ونفخ فيها . وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس فى عيسى ألوهية ولا أى معنى من معانيها . ولا حكى الله - تعالى - عنه أنه قال : { بِإِذْنِ الله } .
أي أنى ما فعلت الذى فعلته إلا بإذن الله وأمره وإرادته وتيسيره ، واللام في قوله { لَكُمْ } للتعليل أى أصور لأجل هدايتكم وتصديقكم بى .
والكاف فى قوله { كَهَيْئَةِ الطير } بمعنى مثل وهى نعت لمفعول محذوف أى أخلق شيئاً مثل هيئة الطير ، والهيئة هى الصورة والكيفية .
والضمير فى قوله { فَأَنفُخُ فِيهِ } يعود إلى هذا المفعول المحذوف .
وقوله { بِإِذْنِ الله } متعلق بيكون ، وجيء به لإظهار العبودية ، ونفى توهم أن يكون عيسى أو غيره شريكا لله فى خلق الكائنات .
وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فقد حكاه القرآن فى قوله - تعالى - { وَأُبْرِىءُ } أى أشفى ، يقال : برأ المريض يبرأ أو يبرؤ برءا وبروءا إذا شفى من مرضه .
والأكمه : هو الذى يولد أعمى . يقال كمه كمها إذا ولد أعمى ، فهو أكمه وامرأة كمهاء .
والأبرص : هو الذى يكون في جلده بياض مشوب بحمرة وهو مرض من الأمراض المنفرة التى عجز الأطباء عن شفائها .
والمعنى : أن عيسى - عليه السلام - قال لقومه : والمعجزات التى تدل على صدقى أن أشفى وأعيد الإبصار إلى من ولد أعمى ، وأعيد الشفاء إلى من أصيب بمرض البرص ، وأعيد الحياة إلى من مات . ولا أفعل كل ذلك بقدرتي وعلمى وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره .
وخص إبراء الأكمه والأبرص بالذكر لأنهما مرضان عضالان لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منهما فإذا أجرى الله - تعالى - على يد عيسى الشفاء منهما كان ذلك دليلا على أن من وراء الأسباب والمسببات خالقا مختارا لا يعجزه شىء وعلى أن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها فى الإيجاد أو الإعدام وإنما المؤثر هو الله - تعالى - .
وقوله { وَأُحْيِي الموتى بِإِذْنِ الله } فيه تدرج من الصعب إلى الأصعب ، لأن مما لا شك فيه أن إحياء الموتى خارق عظيم ، يدل دلال قاطعة على أن الأسباب العادية ليست هى المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر وأن الأشياء لم تخلق بالعلية - كما يقول الماديون - وإنما خلقت بالإرادة المختارة والقدرة المبدعة المنشئة المكونة ، وهى إرادة خالق الكون وقدرته سبحانه .
وقيد ما يقوم به من إبراء وإحياء بأنه بإذن الله : للتنبيه على أن ما يفعله من خوراق وإنما هو بأمر الله وتيسيره وإرادته .
وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء ، وكان دعاؤه يا حي يا قيوم ، وذكروا من بين من أحياهم سام ابن نوح .
قال ابن كثير : بعث الله كل نبى بمعجزة تناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى السحر وتعظيم السحرة ، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحّار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام . وأما عيسى فعبث فى زمن الأطباء واصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذى شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه والأبرص ؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله ما استطاعوا أبدا ، وماذاك إلى أن كلام الرب لا يشبه كلام الخلق " .
وأما المعجزة الخامسة فقد حكاها القرآن في قوله - تعالى - { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } .
وقوله - تعالى - { وَأُنَبِّئُكُمْ } من الإنباء وهو الإخبار بالخبر العظيم الشأن .
وقوله { تَدَّخِرُونَ } من الادخار وهو إعداد الشىء لوقت الحاجة إليه . يقال : دخرته وادخرته ، إذ أعدته للعقبى . وأصله " تذتخرون " بالذال المعجمة - من اذتخر الشيء - بوزن افتعل - فأبدلت التاء دالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت .
والمعنى : أن عيسى - عليه السلام - قد قال لقومه بنى إسرائيل : وإن من معجزاتى التى تدل على صدقى فيما أبلغه عن ربى أني أخبركم بالشيء الذى تأكلونه وبالشيء الذى تخبئونه فى بيوتكم لوقت حاجتكم إليه .
قال القرطبى : وذلك أنه لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا : أخبرنا بما نأكل فى بيوتنا وما ندخر للغد ، فأخبرهم فقال : يا فلان أنت أكلت كذا وكذا ، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا فذلك قوله { وَأُنَبِّئُكُمْ } .
و " ما " في الوضعين موصولة ، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى بما تأكلونه وتدخرونه .
ولا شك أن إخبار عيسى - عليه السلام - لقومه بالشىء الذى يأكلونه وبالشىء الذي يدخرونه يدل على صدقه ، لأن هذا الإخبار الغيبى بما لم يعاينه دليل على أن الله - تعالى - قد أعطاه علم ما أخبر به .
ثم ختم الله - تعالى - هذه الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
أى إن فى ذلك المذكور من المعجزات التى أجراها الله - تعالى - على يد عيسى - عليه السلام - لدلالة واضحة وعلامة بينة تشهد بصدقه فيما يبلغه عن ربه ، إن كنتم يا بنى إسرائيل ممن يصدق بآيات الله ويذعن لها .
فاسم الإشارة " ذلك " يعود إلى ما سبق ذكره من معجزات عيسى - عليه السلام - وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيات وأذعنتم للحق الذى جئتكم به نم عند الله .
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ أَنِيَ أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَرَسُولاً } : ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، فترك ذكر «ونجعله » ، لدلالة الكلام عليه ، كما قال الشاعر :
ورأيتِ زَوْجَكِ في الوَغَى *** مُتَقَلّدا سَيْفا وَرُمْحا
وقوله : { أنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ } بمعنى : ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل بأنه نبيّ وبشير ونذير¹ وحجتي عن صدقي على ذلك ، أني قد جئتكم بآية من ربكم ، يعني بعلامة من ربكم تحقق قولي وتصدّق خبري ، أني رسول من ربكم إليكم .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَرَسُولاً إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } أي تحقق بها نبوّتي ، وأني رسول منه إليكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإذْنِ اللّهِ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم . ثم بين عن الاَية ما هي ، فقال : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ } . فتأويل الكلام : ورسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم بأن أخلق لكم من الطين كهيئة الطير . والطير جمع طائر .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض أهل الحجاز : «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا » ، على التوحيد . وقرأه آخرون : { كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا } على الجماع كليهما .
وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ : { كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا } ، على الجماع فيهما جميعا ، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله ، وأنه موافق لخط المصحف ، واتباع خط المصحف مع صحة المعنى ، واستفاضة القراءة به أعجب إليّ من خلاف المصحف .
وكان خلق عيسى : ما كان يخلق من الطير .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق : أن عيسى صلوات الله عليه ، جلس يوما مع غلمان من الكتاب ، فأخذ طينا ، ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرا ؟ قالوا : وتستطيع ذلك ؟ قال : نعم بإذن ربي ! ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ، ثم قال : كن طائرا بإذن الله ! فخرج يطير بين كفيه ، فخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم ، فأفشوه في الناس . وترعرع . فهمّت به بنو إسرائيل ، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيّر لها ثم خرجت به هاربة .
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطير من الطين سألهم : أيّ الطير أشدّ خلقا ؟ فقيل له الخفاش .
كما : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ } قال : أيّ الطير أشدّ خلقا ؟ قالوا : الخفاش إنما هو لحم ، قال ففعل .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { فأنْفُخُ فِيهِ } وقد قيل : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ } ؟ قيل : لأن معنى الكلام : فأنفخ في الطير . ولو كان ذلك : فأنفخ فيها ، كان صحيحا جائزا ، كما قال في المائدة : «فأنْفُخُ فِيها » يريد : فأنفخ في الهيئة ، وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين : «فأنفخها » ، بغير «في » ، وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول : ربّ ليلة قد بتها وبتّ فيها ، قال الشاعر :
ما شُقّ جَيْبٌ ولا قَامَتْكَ نائحةٌ *** ولا بكَتْكَ جِيادٌ عندَ أسْلابِ
بمعنى : ولا قامت*** عليك . وكما قال الاَخر :
إحْدَى بَنِي عَيّذِ اللّهِ اسْتَمَرّ بِهَا *** حُلْوُ العُصَارَةِ حتى يُنْفَخَ الصّورُ
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُبْرِىءُ الأكْمَه وَالأبْرَصَ } .
يعني بقوله : { وأبْرِىءُ } : وأشفي ، يقال منه : أبرأ الله المريض : إذا شفاه منه ، فهو يبرئه إبراءً ، وبرأ المريض فهو يبرأ برءا ، وقد يقال أيضا : برىء المريض فهو يبرأ ، لغتان معروفتان .
واختلف أهل التأويل في معنى الأكمه ، فقال بعضهم : هو الذي لا يبصر بالليل ، ويبصر بالنهار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأكمه : الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، فهو يَتَكَمّهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ } قال : كنا نحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الأكمه : الذي يولد وهو أعمى .
وقال آخرون : بل هو الأعمى . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وأُبْرِىءُ الأكمَهَ } : هو الأعمى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاح ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الأعمى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأكمه : الأعمى .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأعمى .
وقال آخرون : هو الأعمش . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأعمش .
والمعروف عند العرب من معنى الكَمَهِ : العمى ، يقال منه : كَمِهَتْ عينه ، فهي تَكْمَهُ كمَهَا ، وأكمهتها أنا : إذا أعميتها ، كما قال سويد بن أبي كاهل :
كمِهَتْ عَيْناهُ حتى ابْيَضّتا *** فَهُوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لما نَزَعْ
هَرّجْتُ فارْتَدّ ارْتدادَ الأكْمَهِ *** في غائلاتِ الحائِرِ المُتَهْتَهِ
وإنما أخبر الله عزّ وجلّ عن عيسى صلوات الله عليه ، أنه يقول ذلك لبني إسرائيل ، احتجاجا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوّته ، وذلك أن الكَمَه والبَرَص لا علاج لهما ، فيقدر على إبرائه ذو طبّ بعلاج ، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله ، إنه لله رسول ، لأنه من المعجزات مع سائر الاَيات التي أعطاه الله إياها دلالة على نبوّته . فأما ما قال عكرمة ، من أن الكمه : العمش ، وما قاله مجاهد : من أنه سوء البصر بالليل ، فلا معنى لهما ، لأن الله لا يحتجّ على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها ، ولو كان مما احتجّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوّته أنه يبرىء الأعمش ، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل لقدروا على معارضته بأن يقولوا : وما في هذا لك من الحجة ، وفينا خلق مما يعالج ذلك وليسوا لله أنبياء ولا رسلاً ، ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا من أن الأكمه : هو الأعمى الذي لا يبصر شيئا لا ليلاً ولا نهارا ، وهو بما قال قتادة : من أنه المولود كذلك أشبه ، لأن علاج مثل ذلك لا يدّعيه أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى ، وكذلك علاج الأبرص .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُحْيِي المَوْتَى بإذْنِ اللّهِ وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } .
وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله ، يدعو لهم ، فيستجيب له .
كما : حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة ، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر ، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر أن اطلعي به إلى الشام ، ففعلت الذي أمرت به ، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوّته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه . قال : وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا ، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه ، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله .
وأما قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ } فإنه يعني : وأخبركم بما تأكلونه مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكْلِكُمُوهُ .
{ وما تَدّخِرُونَ } . يعني بذلك : وما ترفعونه فتخبئونه ولا تأكلونه ، يعلمهم أن من حجته أيضا على نبوّته مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره ، أن الله أرسله إليهم : من خلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى بإذن الله ، التي لا يطيقها أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله ذلك ، علما له على صدقه ، وآية له على حقيقة قوله من أنبيائه ورسله ، ومن أحبّ من خلقه إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلهم سبيله عليه .
فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } من الحجة له على صدقه ، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيرا فتصيب ؟ قيل : إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه ، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ، ومن سائر أنبياء الله ورسله ، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه من غير أصل تقدّم ذلك¹ احتذاه ، أو بنى عليه أو فزع إليه ، كما يفزع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيّه ، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدّعية علم ذلك .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرا أو نحو ذلك ، أدخلته أمه الكتاب فيما يزعمون ، فكان عند رجل من المكتبين يعلمه كما يعلم الغلمان ، فلا يذهب يعلمه شيئا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه ، فيقول : ألا تعجبون لابن هذه الأرملة ، ما أذهب أعلمه شيئا إلا وجدته أعلم به مني .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة ، فكان يلعب مع الغلمان ، غلمان القرية التي كان فيها ، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : كان عيسى ابن مريم إذ كان في الكُتّاب يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدّخرون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول :
{ وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتاب : يا فلان إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه ؟
فهكذا فعل الأنبياء وحججها إنما تأتي بما أتت به من الحجيج بما قد يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قبل الله .
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله : { وأُنَبّئُكُمُ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : بما أكلتم البارحة ، وما خبأتم منه¹ عيسى ابن مريم يقوله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح يعني قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَما تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : الطعام والشيء يدّخرونه في بيوتهم غيبا علمه الله إياه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : ما تأكلون : ما أكلتم البارحة من طعام ، وما خبأتم منه .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان يعني عيسى ابن مريم يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتاب بما يصنع آباؤهم ، وبما يرفعون لهم ، وبما يأكلون ويقول للغلام : انطلق فقد رفع لك أهلك كذا وكذا ، وهم يأكلون كذا وكذا ، فينطلق الصبيّ فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء ، فيقولون له : من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم ، فقالوا : ليس هم ههنا ، فقال : ما في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ! ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير ، فذلك قوله : { عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيَسى ابْنِ مَرْيَمَ } .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : ما تخبئون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شيء .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } : ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } فكان القوم لما سألوا المائدة ، فكانت جرابا ينزل عليه أينما كانوا ثمرا من ثمار الجنة ، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه ، ولا يخبئوا ، ولا يدّخروا لغد ، بلاء ابتلاهم الله به ، فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به عيسى ابن مريم ، فقال : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ } قال : أنبئكم بما تأكلون من المائدة ، وما تدّخرون منها . قال : فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا ، فادّخروا وخانوا ، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا ، فذلك قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العَالَمِينَ } . قال ابن يحيى : قال عبد الرزاق : قال معمر ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن عمار بن ياسر ذلك .
وأصل يدّخرون من الفعل يَفْتَعِلون ، من قول القائل : ذخرت الشيء بالذال ، فأنا أذخره ، ثم قيل : يدّخر كما قيل : يدّكر ، من ذكرت الشيء ، يراد به يذتخر ، فلما اجتمعت الذال والتاء وهما متقاربتا المخرج ، ثقل إظهارهما على اللسان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى وصيرتا دالاً مشددة صيروها عدلاً بين الذال والتاء ، ومن العرب من يغلب الذال على التاء فيدغم التاء في الذال ، فيقول : وما تذّخرون وهو مذّخر لك ، وهو مذّكر ، واللغة التي بها القراءة الأولى ، وذلك إدغام الذال في التاء ، وإبدالهما دالاً مشددة لا يجوز القراءة بغيرها لتظاهر النقل من القراء بها ، وهو اللغة الجُودَى ، كما قال زهير :
إِنّ الكَرِيمَ الذي يُعْطيكَ نائلَهُ *** عَفْوا وَيُظْلَمُ أحْيانا فَيَظّلِمُ
يروى بالظاء ، يريد : فيفتعل من الظلم ، ويروى بالطاء أيضا .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : إن في خلقي من الطين الطير بإذن الله ، وفي إبرائي الأكمه والأبرص ، وإحيائي الموتى ، وإنبائي إياكم بما تأكلون ، وما تدخرون في بيوتكم ، ابتداء من غير حساب وتنجيم ، ولا كهانة وعرافة ، لعبرة لكم ، ومتفكرا تتفكرون في ذلك ، فتعتبرون به أني محقّ في قولي لكم : إني رسول من ربكم إليكم ، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ، إن كنتم مؤمنين ، يعني : إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته ، مقرّين بتوحيده ونبيه موسى ، والتوراة التي جاءكم بها .