التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم للمرة الثانية على سبيل التنبيه والتوبيخ ، من الذى يملك أن يرزقهم ، فقال - سبحانه - : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض . . } .

أى : قبل أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين من الذى يرزقكم من السماء بالمطر وغيره ، ويرزقكم من الأرض بالنباتات والمعادن وغير لك من المنافع .

وقوله - تعالى - : { قُلِ الله } جواب على هذا السؤال ، وهو جواب لا يملكون إلا الاعتراف به .

أى : قل لهم منبها ولافتا أنظارهم إلى ما هم فيه من جهل : الله ومحده هو الذى يرزقكم بما لا يحصى من الأرزاق التى بعضها من السماوات ، وبعضها من الأرض .

وقوله - سبحانه - : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } داخل فى حيز الأمر السابق ، ولكن بأسلوب فيه ما فيه من الحكمة والتلطف ، ومن حمل المخاطب على التفكر والتدبر حتى يعود إلى الرشد والصواب .

أى : وقل لهم - أيضا - أيها الرسول الكريم - لقد علمتم - يا معشر المشركين أن المستحق للعبادة هو الله - تعالى - وحده ، لأنه هو الذى خلقكم ورزقكم من السماوات والأرض . .

وإن أحدنا لا بد أن يكن على الهدى والآخر على الضلال . وسنترك تحديد من المهتدى ومن هو الضال لعقولكم وضمائركم .

وستعلمون - علم اليقين - بعد التفكر والتدبر أننا نحن المسلمين على الحق ، وأنتم يا معشر المشركين على الباطل . .

فالجملة لون من ألوان الدعوة إلى الله - تعالى - بأسلوب مهذب حكيم ، من شأنه أن يحمل القلوب النافرة عن الحق ، إلى الاستسلام له ، والدخول فيه . .

قال القرطبى : وقوله : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } هذا على وجه الإِنصاف فى الحجة ، كما يقول القائل لغيره : أحدنا كاذب ، وهو يعلم أنه صادق ، وأن صاحبه كاذب ، والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر وامحد ، بل على أمرين متضادين ، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن ، والآخر ضال وهو أنتم ، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب .

والمعنى : أنتم الضالون حين أشركتم بالله الذى يرزقكم من السماوات والأرض . .

وقوله : { أَوْ إِيَّاكُمْ } معطوف على اسم إن ، وخبرها وهو المذكور . وحذف خبر الثانى للدلالة عليه .

أى : وإنا لعلى هدى أو فى ضلال مبين ، وإنكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام : من يرزقكم من السموات والأرض بإنزاله الغيث عليكم منها حياة لحروثكم ، وصلاحا لمعايشكم ، وتسخيره الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم ، ومنافع أقواتكم ، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم ؟ وترك الخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام عليه ، ثم ذكره ، وهو : فإن قالوا : لا ندري ، فقل : الذي يرزقكم ذلك الله ، وإنا أو إياكم أيها القوم لعلى هُدًى أو في ضلال مبين يقول : قل لهم : إنا لعلى هدى أو في ضلال ، أو إنكم على ضلال أو هُدًى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وإنّا أوْ إيّاكُمْ لعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال : قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين ، والله ما أنا وأنتم على أمر واحد ، إنّ أحد الفريقين لمهتد .

وقد قال قوم : معنى ذلك : وإنا لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين . ذكر من قال ذلك :

حدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيديّ ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف عن عكرمة وزياد ، في قوله : وَإنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلى هَدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال : إنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين .

واختلف أهل العربية في وجه دخول «أو » في هذا الموضع ، فقال بعض نحوييّ البصرة : ليس ذلك لأنه شك ، ولكن هذا في كلام العرب على أنه هو المهتدِي ، قال : وقد يقول الرجل لعبده : أحدنا ضارب صاحبه ، ولا يكون فيه إشكال على السامع أن المولى هو الضارب .

وقال آخر منهم : معنى ذلك : إنا لعلى هدى ، وإنكم إياكم في ضلال مبين ، لأن العرب تضع «أو » في موضع واو الموالاة ، قال جرير :

أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أوْ رِياحا *** عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيّةَ والخِشابا

قال : يعني ثعلبة ورياحا ، قال : وقد تكلم بهذا من لا يشكّ في دينه ، وقد علموا أنهم على هدى ، وأولئك في ضلال ، فيقال : هذا وإن كان كلاما واحدا على جهة الاستهزاء ، فقال : هذا لهم ، وقال :

فإنْ يَكُ حُبّهُمْ رُشْدا أُصِبْهُ *** وَلسْتُ بِمُخْطىءٍ إنْ كانَ غَيّا

وقال بعض نحويي الكوفة : معنى «أو » ومعنى الواو في هذا الموضع في المعنى ، غير أن القرينة على غير ذلك لا تكون «أو » بمنزلة الواو ، ولكنها تكون في الأمر المفوّض ، كما تقول : إن شئت فخذ درهما أو اثنين ، فله أن يأخذ اثنين أو واحدا ، وليس له أن يأخذ ثلاثة . قال : وهو في قول من لا يبصر العربية ، ويجعل «أو » بمنزلة الواو ، ويجوز له أن يأخذ ثلاثة ، لأنه في قولهم بمنزلة قولك : خذ درهما أو اثنين قال : والمعنى في إنّا أو إياكُمْ إنا لضالون أو مهتدون ، وإنكم أيضا لضالون ، وهو يعلم أن رسوله المهتدي ، وأن غيره الضالّ . قال : وأنت تقول في الكلام للرجل يكذّبك . واللّهِ إن أحدنا لكاذب ، وأنت تعنيه ، وكذّبته تكذيبا غير مكشوف ، وهو في القرآن وكلام العرب كثير ، أن يوجّه الكلام إلى أحسن مذاهبه ، إذا عرف ، كقول القائل لمن قال : والله لقد قدم فلان ، وهو كاذب فيقول : قل : إن شاء الله ، أو قل : فيما أظنّ ، فيكذّبه بأحسن تصريح التكذيب . قال : ومن كلام العرب أن يقولوا : قاتله الله ، ثم يستقبح فيقولون : قاتله الله ، وكاتعه الله . قال : ومن ذلك : ويحَك ، وويسَك ، إنما هي في معنى : ويْلَك ، إلا أنها دونها .

والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب ، كما يقول الرجل لصاحب له يخاطبه ، وهو يريد تكذيبه في خبر له : أحدنا كاذب ، وقائل ذلك يعني صاحبه ، لا نفسه فلهذا المعنى صير الكلام بأو .