ثم أكد - سبحانه - أن البعث حق ، وأن الجزاء حق ، لكى لا يغفل عنهما الناس ، ولكى يستعدوا لهما بالإِيمان والعمل الصالح فقال : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى . . . } .
أى : إنا نحن بقدرتنا وحدها نحيى الموتى بعد موتهم ، ونعيدهم إلى الحياة مرة أخرى لكى نحاسبهم على أعمالهم .
{ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } أى : وإنا نحن الذين نسجل عليهم أعمالهم التى عملوها فى الدنيا سواء أكانت هذه الأعمال صاحلة أم غير صالحة .
ونسجل لهم - أيضا - آثارهم التى تركوها بعد موتهم سواء أكانت صالحة كعلم نافع ، أو صدقة جارية .
. . أم غير صالحة كدار للهو واللعب ، وكرأى من الآراء الباطلة التى اتبعها من جاء بعددهم ، وسنجازيهم على ذلك بما يستحقون من ثواب أو عقاب { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } أى : وكل شئ أثبتناه وبيناه فى أصل عظيم ، وفى كتاب واضح عندنا . ألا وهو اللوح المحفوظ ، أو علمنا الذى لا يعزب عنه شئ .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : وفى قوله : { آثارهم } قولان :
أحدهما : ونكتب أعمالهم التى باشروها بأنفسهم ، وآثارهم التى أثروها - أى تركوها - من بعدهم ، فنجزيهم على ذلك - أيضا - ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشر . كقوله صلى الله عليه وسلم " من سن فى الإِسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شئ ، ومن سن فى الإِسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ . . " .
والثانى : أن المراد { وآثارهم } أى : آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية . فقد روى مسلم والإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال : " خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " إنه بلغنى أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى المسجد ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قد أردنا ذلك ، فقال : يا بنى سلمة ، دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم " " .
هذا ، وتلك الرواية الصحيحة تشير إلى أن هذه الآية ليست مدنية - كما قيل - ، لأن هذه الرواية تصرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال لبنى سلمة ، " دياركم تكتب آثاركم " أى : ألزموا دياركم تكتب آثاركم . . دون إشارة إلى سبب النزول .
قال الآلوسى ما ملخصه : والأحاديث التى فيها أن الله - تعالى - أنزل هذه الآية ، حين أراد بنو سلمة أن ينتقلوا من ديارهم . معارضة بما فى الصحيحين من أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية ، ولم يذكر أنها نزلت فيهم ، وقراءته صلى الله عليه وسلم لا تنافى تقدم النزول . أى : أن الآية مكية كبقية السورة .
وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد أثبتت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وبينت الحكمة من رسالته ، كما بينت أن يوم القيامة آت لا ريب فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىَ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيَ إِمَامٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : إنّا نَحْنُ نُحْيي المَوْتى من خلقنا وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا في الدنيا من خير وشرّ ، وصالح الأعمال وسيئها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا من عمل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا قال : ما عملوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ما قَدّمُوا قال : أعمالهم .
وقوله : وآثارَهُمْ يعني : وآثار خُطاهم بأرجلهم ، وذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليقرب عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ الجهضميّ ، قال : حدثنا أبو أحمد الزّبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد فنزلت وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا وآثارَهُمْ فقالوا : نثبت في مكاننا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد ، فأرادوا أن ينتقلوا ، قال : فنزلت وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا وآثارَهُمْ فثبتوا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا الجريريّ ، عن أبي نضرة ، عن جابر ، قال : أراد بنو سَلِمة قرب المسجد ، قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا بَنِي سَلِمَةَ دِيارَكُمْ ، إنّها تُكْتَبُ آثارُكُمْ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، قال : سمعت كهمسا يحدّث ، عن أبي نضرة ، عن جابر ، قال : أراد بنو سَلِمة أن يتحوّلوا إلى قُرب المسجد ، قال : والبقاع خالية ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «يا بَنِي سَلِمَةَ دِيارَكُمْ إنّها تُكْتَبُ آثارُكُمْ » قال : فأقاموا وقالوا : ما يسرّنا أنا كنا تحوّلنا .
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن طريف ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، قال : شكت بنو سلِمة بُعد منازلهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : إنّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا وآثارَهُمْ فقال : «عَلَيْكُمْ مَنازلَكُمْ تُكْتَبُ آثارُكم » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، قال : حدثنا الحسين ، عن ثابت ، قال : مشيت مع أنس ، فأسرعت المشي ، فأخذ بيدي ، فمشينا رُويدا ، فلما قضينا الصلاة قال أنس : مشيت مع زيد بن ثابت ، فأسرعت المشي ، فقال : يا أنس أما شعرت أن الاَثار تكتب ؟
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن أن بني سَلِمة كانت دورهم قاصية عن المسجد ، فهموا أن يتحوّلوا قرب المسجد ، فيشهدون الصلاة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألا تَحْتَسِبُونَ آثارَكُمْ يا بَني سَلِمَةَ ؟ » فمكثوا في ديارهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم ابن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله ما قَدّمُوا وآثارَهُمْ قال : خُطَاهم بأرجلهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وآثارَهُمْ قال : خطاهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وآثارَهُمْ قال : قال الحسن : وآثارهم قال : خُطَاهم . وقال قتادة : لو كان مُغْفِلاً شيئا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفّي الرياح من هذه الاَثار .
وقوله : وكُلّ شَيْء أحْصَيْناهُ في إمام مُبِينٍ يقول تعالى ذكره : وكل شيء كان أو هو كائن أحصيناه ، فأثبتناه في أمّ الكتاب ، وهو الإمام المبين . وقيل : مُبين ، لأنه يبين عن حقيقة جميع ما أثبت فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في إمامٍ مُبِينٍ قال : في أمّ الكتاب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكُلّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمامٍ مُبِينٍ كلّ شيء محصيّ عند الله في كتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكُلّ شَيْء أحْصَيْناهُ فِي إمام مُبِينٍ قال : أمّ الكتاب التي عند الله فيها الأشياء كلها هي الإمام المبين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.