التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ} (16)

ثم صورت السورة الكريمة بعد ذلك علم الله - تعالى - الشامل لكل شئ تصويرا يأخذ بالألباب ، وبينت سكرات الموت وغمراته ، وأحوال الإِنسان عند البعث . . بيانا رهيبا مؤثرا . قال - تعالى - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ . . . اليوم حَدِيدٌ } .

والمراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } جنسه . وقوله : { تُوَسْوِسُ } من الوسوسة وهو الصوت الخفى ، والمراد به حديث الإِنسان مع نفسه . قال الشاعر :

وأكذب النفس إذا حدثتها . . . إن صدق النفس يزرى بالأمل

{ مَا } موصولة ، والضمير عائد عليها والباء صلة ، أى : ونعلم الأمر الذى تحدثه نفسه به . ويصح أن تكون مصدرية ، والضمير للإِنسان ، والباء للتعدية ، أى ونعلم وسوسة نفسه إياه .

والمتدبر فى هذه الآية يرى أن افتتاحها يشير إلى مضمونها ، لأن التعبير بخلقنا ، يشعر بالعلم التام بأحوال المخلوق ، إذ خالق الشئ وصانعه أدرى بتركيب جزئياته . أى : والله لقد خلقنا بقدرنا هذا الإِنسان . ونعلم علما تاما شاملا ما تحدثه به نفسه من أفكار وخواطر . .

وقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } تقرير وتوكيد لما قبله .

وحبل الوريد : عرق فى باطن العنق يسرى فيه الدم ، والإِضافة بيانية . أى : حبل هو الوريد . أى : ونحن بسبب علمنا التام بأحواله كلها ، أقرب إليه من أقرب شئ لديه ، وهو عرق الوريد الذى فى باطن عنقه ، أو اقرب إليه من دمائه التى تسرى فى عروقه .

فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن علم الله - تعالى - بأحوال الإِنسان ، أقرب إلى هذا الإِنسان ، من أعضائه ومن دمائه التى تسرى فى تلك الأعضاء .

والمقصود من القرب : القرب عن طريق العلم ، لا القرب فى المكان لاستحالة ذلك عليه - تعالى - .

قال القرطبى : قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } يعنى الناس . { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أى : ما يختلج فى سره وقلبه وضميره ، وفى هذا زجر عن المعاصى التى استخفى بها . . . { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } هو حبل العاتق ، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه ، وهما وريدان عن يمين وشمال . . والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين . . وهذا تمثيل لشدة القرب . أى : ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذى هو من نفسه . . وهذا القرب ، هو قرب العلم والقدرة ، وأبعاض الإِنسان يحجب البعضُ البعضَ ، ولا يحجب علم الله - تعالى - شئ .

وقال القشيرى : فى هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم .

وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه . وسار عليه من قبلنا جمهور المفسرين يكون الضمير { نَحْنُ } يعود إلى الله - تعالى - ، وجئ بهذا الضمير بلفظ { نَحْنُ } على سبيل التعظيم .

ويرى الإِمام ابن كثير أن الضمير هنا يعود إلى الملائكة ، فقد قال - رحمه الله - وقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } يعنى ملائكته - تعالى - أقرب إلى الإِنسان من حبل وريده إليه . ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد ، وهما منفيان بالإِجماع - تعالى الله وتقدس - ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل : وأنا أقرب إليه من حبل الوريد وإنما قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } كما قال فى المحتضر { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } يعنى ملائكته .

وكذلك الملائكة أقرب إلى الإِنسان من حبل وريده إليه ، بإقدار الله لهم على ذلك .

وهذا الذى ذهب إليه ابن كثير وإن كان مقبولا - لأنه قرب الملائكة من العبد بإقدار الله لهم على ذلك - إلا أن ما ذهب إليه الجمهور من أن الضمير { نَحْنُ } لله - تعالى - أدل على قرب الله - سبحانه - لأحوال عباده ، وأظهر فى معنى الآية ، وأزجر للإِنسان عن ارتكاب المعاصى .