التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

وبعد أن بين - سبحانه - ما دار بين إبراهيم وقومه من مجالات تتعلق بإثبات وحدانية الله ، وإبطال الشرك ، وحكى جانبا من النعم التى أنعم بها على خليله وعلى كل من سار على نهجه ، وأخبر بأن هذا القرآن ما هو إلا تذكير للعالمين وأن المذكر به - لا يريد منهم أجرا على تبليغه ، بعد كل ذلك أخذ القرآن فى الرد على منكرى نزول الكتب السماوية وفى بيان عاقبتهم الوخيمة بسبب هذا الجحود فقال - تعالى - : { وَمَا قَدَرُواْ الله . . . } .

قوله { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } كلمة { قَدَرُواْ } مأخوذة من القدر - بفتح سكون - ، وأصل القدر معرفة مقدار الشىء بالسبر والحزر ، يقال : قدر الشىء يقدره إذا سبره وحزره ليعرف مقداره ، ثم استعمل فى معرفة الشىء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه .

والمعنى : ما عظموا الله حق تعظيمه ، وما عرفوه حق معرفته فى اللطف بعباده وفى الرحمة بهم ، بل أخلوا بحقوقه إخلالا عظيما ، وضلوا ضلالا كبيرا ، إذ أنكروا بعثة الرسل وإنزال الكتب ، وقالوا تلك المقالة الشنعاء ما أنزل الله على بشر شيئاً من الأشياء ، قاصدين بهذا القول الطعن فى نبوة النبى صلى الله عليه وسلم وفى أن القرآن من عند الله .

ولفظ { حَقَّ } منصوب على المصدرية ، وهو فى الأصل صفة للمصدر ، أى : قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه .

ثم أمرالله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يلزمهم بما يخرس ألسنتهم ، وأن يرد على سلبهم العام بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم فقال - تعالى - { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } أى : قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين بأن الله ما أنزل على بشر شيئاً من الأشياء : قل لهم من الذى أنزل التوراة وهو الكتاب الذى جاء به موسى { نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } أى : ضياء من ظلمة الجهالة وهداية تعصم من الأباطيل والضلالة .

وكلمة { نُوراً } حال من الضمير فى به أو من الكتاب .

ثم بين - سبحانه ما فعله الجاحدون بكتبه من تحريف وتغيير فقال : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } .

القراطيس : جمع قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق ونحوه .

أى : تجعلون هذا الكتاب الذى أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إظهار ما تريدون إظهاره منها ، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم نفوسكم السقيمة وشهواتكم الأثيمة .

فالمراد من هذه الجملة الكريمة ذم المحرفين لكتب الله ، وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع ، الذى قصدوا من ورائه الطعن فى نبوة النبى صلى الله عليه وسلم والتوصل إلى ما يبغونه من مطامع وأهواء .

وقوله { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ } أى : وعلمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف التى لا يرتاب عاقل فى أنها تنزيل ربانى .

وقوله { قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } .

أى : قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين : الله - تعالى - هو الذى أنزل الكتاب على موسى ، ثم بعد هذا القول الفصل ذرهم فى باطلهم الذى يخوضون فيه يلعبون ، وفى غيهم يعمهون حتى يأتيهم من الله اليقين .

وفى أمره صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم ، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيه على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب .

وكان العطف بثم فى قوله { ثُمَّ ذَرْهُمْ } للدلالة على الترتيب الرتبى أى : أنهم لا تنجح فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الأولى ، وإنما كان الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم .

هذا ، وللمفسرين لهذه الآية قولان :

الأول : أنها مكية النزول تبعاً للسورة ، وأن الذين قالوا { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ } مشركو مكة ، وإنما ألزمهم الله بإنزال التوراة لأنهم كانوا يعرفون ذلك ولا ينكرون أن الله قد أنزلها على موسى

قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب فى تأويل ذكل قول من قال : عنى بذلك { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } مشركو قريش . وذلك أن ذلك فى سياق الخبر عنهم . فأن يكون ذلك أيضاً خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر . . وليس ذلك مما تدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى . . . ) .

وقد تابع ابن كثير رأى ابن جرير وقال : وهذا الرأى هو الأصح ، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبى صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر كما قال - تعالى - { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } وكذا قالوا هنا { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } .

الثانى : أن هذه الآية مدنية النزول ، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات منها مدنية كما نص عليه كثير من العلماء .

ومما يؤيد كون هذه الآية مدنية ما ورد من آثار فى أسباب نزولها ، ومن هذه الآثار ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود : والله ما أنزل الله من المساء كتابا ) فنزل قوله - تعالى - { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } . . . الخ وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير - مرسلا - قال : جاء رجل من اليهود يقال له ملك بن الصيف فخاصم النبى صلى الله عليه وسلم قال له النبى : " أنشدك بالذى أنزل التوراة على موسى هل تجد فى التوراة أن الله يبغض الحبر السمين " - وكان حبرا سمينا - فغضب وقال : ( هل أنزل الله على بشى من شىء ) فقال له أصحابه : ويحك ولا على موسى فأنزل الله { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } الآية .

والذى نراه أن الآية الكريمة تصلح للرد على الفريقين : فريق المشركين وفريق اليهود إلا أن سياقها يجعلنا نرجح أن الخطاب فيها موجه بالأصالة إلى اليهود وإلى غيرهم بالتبع ، لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس أى أوراقا مفرقة ليظهروا منها ما يناسب أهواءهم وليخفوا منها ما فيه شهادة بصدق النبى صلى الله عليه وسلم ولأن هناك آثارا متعددة تثبت أنها نزلت فى شأنهم .

وتوجيه الخطاب إلى اليهود لا يتنافى مع كونها مكية ، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكى خطابا لغير اليهود .