التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

ثم بين لهم - سبحانه - بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكراً له ، وطاعة لأمره فقال - تعالى - : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

قال القرطبى : قوله - تعالى - : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، أي يوم بدر . روى أن أصحاب رسلو الله - صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر .

ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال : قتلت كذا ، وأسرت كذا ، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك . فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده . .

وقال ابن كثير : قال على بن طلحة عن ابن عباس : " رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، يديه - يعنى يوم بدر - فقال : " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ، فقال جبريل : " خذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم " فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم " ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين .

وقال السدى : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلى يوم بدر " أعطنى حصا من الأرض " فناوله حصا عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم " ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .

وقال أبو معشر المدنى " عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظى قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضه من تراب فرمى بها في جوه القوم وقال : " شاهت الوجوه " ، فدخلت في أعينهم كلهم . وأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله .

{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .

وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله - تعالى - { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } المقصود به رميه - صلى الله عليه وسلم - لأبى بن خلف يوم أحد ، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق في غزوة خيبر ، أو رميه المشركين في غزوة حنين .

قال ابن كثير : وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر . . وسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم .

والمعنى : إنكم - أيها المؤمنون - لم تقتلوا المشركين في بدر بقوتكم وشجاعتكم ، ولكن الله - تعالى - هو الذي أفظركم بحوله وقوته ، بأن خذلهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وقوى قلوبكم ، وأمدك بالملائكة ، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر .

والفاء في قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ . . } يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم { ولكن الله قَتَلَهُمْ } لأنه و الذي أنزل الملائكة ، وألقى الرعب في قلوبهم ، وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع .

وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } خطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين .

أى : { وَمَا رَمَيْتَ } بالرعب في قلوب الأعداء { إِذْ رَمَيْتَ } في وجوههم بالحصباء يوم بدر { ولكن الله } - تعالى - هو الذي { رمى } بالرعب في قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم .

أو المعنى : ما أوصلت الحصبا إلى أعينهم إذ رميتهم بها ، ولكن الله هو الذي أوصلها إليها .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة : يعنى أن الرمية التي رميتها - يا محمد - لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر ، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم . . فأثبت الرمية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ، لأن أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله - عز وجل - ، فكان الله - تعالى - هو فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصلا .

وقال الآلوسى : واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه - تعالى - وإنما لهم كسبها ومباشرتها وقال الإِمام : أثبت - سبحانه - كونه - صلى الله عليه وسلم - راميا ، فوجب حمله على أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى كسبا ، والله - تعالى - رمى خلقا .

فإن قيل : لماذا ذرك مفعول القتل منفياً ومثبتاً ولم يذكر للرمى مفعول قط ؟

فالجواب - كما يقول أبو السعود - : " أن المقصود الأصلى بيان حال الرمى نفيا وإثباتا ، إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر ، وهو المنشأ لتغير المرمى به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عينى كل واحد من أولئك الأمة الجمة شئ من ذلك .

وقوله - سبحانه - : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً } بيان لبعض وجوه حكمته - سبحانه - في خذلان الكافرين ، ونصر المؤمنين .

وقوله { لِيُبْلِيَ } من البلاء بمعنى الاختبار . وهو يكون بالنعمة لإِظهار الشكر ، كما يكون بالمحنة لإِظهار الصبر . والمراد به هنا : الإِحسان والنعمة والعطاء ، ليزداد المؤمنون شكراً لربهم لاذى وهبهم ما وهب من نعم .

واللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر .

والمعنى ، ولكى يحسن - سبحانه - إلى عباده المؤمنين ، وينعم عليهم بالنصر والغنائم ، ليزدادوا شكراً له ، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم .

وقوله { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد به الحض على طاعة الله ، والتحذير من معصيته ، أى : إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم ، عليم بضمائركم وقلوبكم ، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره .