فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون46 }

بعد الأمر بتلاوة القرآن ، وإتمام الصلاة ، وذكر الله ، وتعاهد ذلك والثبات عليه ليكون أعون على الاستقامة على الهدي ، والتنائي عن الفحشاء والعصيان والردى- وذلك مما بينته الآية السابقة الخامسة والأربعون- جاءت هذه الآية الكريمة تنهانا عن شيء وتأمرنا بآخر ، نهانا ربنا عن مناظرة ومغالبة اليهود والنصارى ، مغالبة فيها مخاشنة ، إلا من سفه منهم وتجاوز حده ، فهذا نجادله بالحجة ونجادله بكل قوة وغلظة ، ملحدا كان أو وثنيا ، يهوديا أو نصرانيا ، استجابة لأمر مولانا الحق : )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون( {[3233]} ، { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } ألزمهم الحجة ، وأقيموا عليهم سلطان الله وبرهانه ، وأسقطوا الباطل الذي يخوضون فيه ، واكشفوا بخصامكم لهم زورهم الذي فضحهم به القرآن . .

) . . ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا . أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافين عذابا مهينا( {[3234]}( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين . إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين( {[3235]} فأقيموا حجة الله البالغة وأشهدوا الدنيا على أن هذا الدين يعهد إلى المؤمنين به أن يؤمنوا بما أنزل الله إليهم من وحي وكتاب ، وبما أنزل على الرسل السابقين من كتب سماوية كالتوراة والإنجيل ، ونؤمن بالله ربنا ورب اليهود والنصارى ورب العالمين أجمعين ، ونحن لأمره مطيعون ، وعلى منهاجه سالكون ، فالإسلام يجمع ولا يفرق ، وسبيله مستقيمة لا تقبل عوجا .

روى البخاري عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } .

[ وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل- وفي رواية- إما أن تكذبوا الحق وإما أن تصدقوا بالباطل " ]{[3236]} .

[ وروى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب ، يقول ابن كثير : معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد ، لأنه يحدث عن صحف يحسن الظن بها ، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة ، لأنهم لم يكن في أمتهم حفّاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة ، ومع ذلك وقرب العهد وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة لا يعلمها إلا الله عز وجل ، ومن منحه الله تعالى علما بذلك ، كل بحسبه- ولله الحمد والمنة .

وجمهور علماء القرآن على أن الآية محكمة ، باق حكمها لم ينسخ ، فمن أراد منهم الاستبصار في الدين دعوناه بالحكمة ، وجادلناه بالحسنى ليكون أنفع له ، وأرفق به ، وأعون على هدايته ، وأبلغ في الإعذار ، كما قال تعالى لموسى وهارون : ) اذهبا إلى فرعون إنه طغى . فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى( {[3237]}[ وقوله على هذا{ إلا الذين ظلموا منهم } معناه ظلموكم ، وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق . . . إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجادلهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية ]{[3238]} ، وذهب قتادة إلى أنها منسوخة بآية القتال ، لكن رد عليهم بأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر ، أو حجة من معقول .


[3233]:سورة التوبة. الآية 29.
[3234]:سورة النساء. من الآية150، والآية 151.
[3235]:سورة البقرة. الآيتان 135, 136.
[3236]:ما بين العلامتين[ ] أورده القرطبي ج13.ص350-351.
[3237]:سورة طه. الآيتان 43، 44.
[3238]:ما بين العارضتين أورده القرطبي ص350، 351.