{ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون( 82 )فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون( 83 ) فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين( 84 )فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون( 85 ) } .
الاستفهام هنا قد يراد به التحريض والوعيد وتسفيه الذين عموا عن الاعتبار ، والعظة والادّكار ؛ فلو تأملوا إذ عاينوا آثار المُهْلَكِين من الأقوام الغابرين ، لكان ذلك من أسباب رجوعهم عن تكذيب المرسلين ؛ إذ من دُمروا كانوا أكثر عددا ممن كذبوا النبي الخاتم ، وأشد منهم قوة ، وأوسع تأثيرا-نحتوا من الجبال بيوتا ، واتخذوا المصانع ، واتخذوا بكل ريع آية ، وشادوا القصور ؛ فلم يغن عنهم ما كسبوه ، أو : أي شيء أغنى عنهم كسبهم ؟ . . فحين جاء كل أمة رسولها بالمعجزات ، والعظات الربانية الواضحات ، فرح الكفار بما عندهم من علم بأمور تدبير معايش الدنيا ، وسخروا بالهدى الذي دعت إليه رسلهم ، واستصغروا العلم الموحى به غرورا بعلمهم-كما قال الله سبحانه في شأنهم : { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون }{[4087]}-وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستخفّون بشأنه ويستبعدون وقوعه ؛ والفرح الذي يُعقِب دمارا هو الذي يملأ نفوس أصحابه بطرا ، وهو المنهي عنه في قول الحق جل علاه : { . . إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين }{[4088]} وفي القول الرباني الحكيم { . . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين }{[4089]} . فلما عاينوا جانبا من بطشتنا وبئيس عذابنا وشديد انتقامنا بدا لهم أن يؤمنوا بنا ؛ كالذي كان من المتأله المتجبر فرعون{ . . حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين }{[4090]} فرد الله عليه إقراره ، كما شهدت بذلك الآية الكريمة : { الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين }{[4091]} ؟ ! وكفروا بما اتخذوا من دون الله أربابا ، فعند مشاهدة نقمة العزيز الجبار لا ينفع التصديق ولا الإقرار ، فقد سنّ المولى الخبير البصير عدم نفع الإيمان عند معاينة بطشة الملك الديان .
[ وجوز انتصاب { سنة الله } على التحذير ، أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل{[4092]} ] .
وعند حلول البأس يخسر الكافر الفاجر ، المعاند الجاحد .
وقد تقبل التوبة عند حلول الشدة والبلاء ، وليس كذلك الإيمان ، وربما يستشهد لهذا بما أشارت إليه الآية الكريمة : { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون }{[4093]} وكذا الآية المباركة : { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون }{[4094]} . وقول المولى –تبارك اسمه- : { . . ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون }{[4095]} وقوله عز وجل : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون }{[4096]} { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار . . }{[4097]} لكن تفضل ربنا وتكفل بالعفو والصفح عمن سارع إلى طلب المغفرة والرضوان { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما }{[4098]} .
فاللهم يا غافر الذنب يا قابل التوب اغفر زلتنا وتقبل توبتنا ، إنك صاحب الطول والفضل العظيم .
خاتمة تفسير سور : ص ، الزمر ، غافر ، فصلت ، الشورى
السور الخمس المباركات دعت إلى توحيد الله تعالى وتقديسه ، وإلى اليقين بآياته ورسالاته ، والتصديق بالرجوع إلى ربنا-جل وعز-وملاقاته ، وتوفية كل محسن أو مسيء جزاء ما قدم في حياته ؛ وبينت جحود أكثر بني الإنسان ، وبصّرت بسبيل الدعوة إلى الإيمان ، وهدت إلى صراط العدل والفضل والإحسان .
في تقديس المولى سبحانه تتابع في هذه السور المحكمات ثناء على ربنا الكبير المتعال المتفرد بالجلال بأنه { العزيز العليم }{[1]} { العزيز الغفار }{[2]} { الواحد القهار }{[3]} ؛ فتبارك عالم الغيب والشهادة . مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار ، فاطر السماوات والأرض الولي الحميد ، { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }{[4]} .
كم فيها من برهان على أن الله أحد صمد .
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون }{[5]} ؛ { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير }{[6]} { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه . . }{[7]} { خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون }{[8]} { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون . قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون }{[9]} ؛ { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا . . }{[10]} ، فادعوا الله مخلصين له الدين ، وأنيبوا إلى رفيع الدرجات العلي الحكيم .
وعهد الله إلى العباد أن يستيقنوا بالفرقان المنزل من لدنه سبحانه على خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام ، فقد جعل موحيه-عز شأنه- نورا يهدي إلى السعادة وإلى دار السلام : { . . وإنه لكتاب عزيز . لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }{[11]} . { . . تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . . }{[12]} ؛ ويظفر بهدايته وبركته من تفهمه وتعلمه واستقام منهاجه : { . . فبشر عباد . الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب }{[13]} { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب }{[14]} .
والتدبر : يعني : النظر في عاقبة الآيات وما تؤول إليه ، ويعني : إمعان الفكرة فيها ، والتحدث بما هدت إليه ؛ ومما قال أبو حنيفة : الدبرة : البقعة من الأرض تزرع ؛ والدبر : المال الكثير الذي لا يحصى كثرة ؛ فكأن عظم خيرات القرآن يدركها من تعقل آياته ، وأكثر من النظر في عواقبها وما تؤول إليه ، وحدّث بذلك ما استطاع .
كما أن من عهد الله في هذا الكتاب المجيد أن يتذكره العقلاء ، وأن يحفظوه ويدرسوه ويقرءوه ؛ قال الفراء : الذكر ما ذكرته بلسانك وأظهرته ، والذكر بالقلب والدراسة للحفظ .
وإلا كان الطبع على الفؤاد ، كما قال الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيعوا حدوده . ومن حاد عن آيات ربنا التكوينية والتنزيلية ، ومال عن القصد فيها ، ومارى وجادل ، وشك وأزرى ، فقد باء بغضب شديد ، ووقع في ضلال بعيد : { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار } من سورة غافر الآية 35 ؛ غرهم بالله الغرور فاستكبروا عن آياته : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير } من سورة غافر . الآية56 ؛ ومهما أسروا قولهم الآثم أو جهروا به فإن مكرهم عند ربهم : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا . . } من سورة ( فصلت )من الآية40 ؛ و[ ألحد ] تعني : مال وجار ، وعدل عن الحق ، وأدخل فيه ما ليس منه ، وأزرى به .
والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل{[15]} .
وجاءنا في هذه السور من نبأ المرسلين ما يثبت الفؤاد ويهدي إلى الرشاد ، فسلام على داود النبي الأوّاب ، وعلى سليمان الذي أوتي ملكا لم ينله أحد من بعده ، فسأل الله أن يعينه على شكر نعمة العزيز الوهاب ، وأيوب الصابر نعم العبد إنه أواب ، وإبراهيم وإسحق ويعقوب و{ . . . إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار }{[16]} ، وموسى الذي أرسل بالبرهان والسلطان إلى فرعون وقارون وهامان ، فقالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ، فمن الله على موسى وهارون ، وآتاهما الكتاب المستبين ، وأغرق القوم المجرمين ؛ ولا تتحول سنة الله في الآخرين ، ولن تتبدل إلى يوم الدين { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }{[17]} ، فاستكملوا الإيمان بدينكم يؤيدكم الله على عدوه وعدوكم ، وينصركم في أولاكم وفي آخرتكم .
وعشرات من الآيات تترى في يوم التلاق{ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار . اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب }{[18]} ، { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب }{[19]} ، { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة واهم سوء الدار }{[20]} ، تحذر أهواله ونكاله ، وخزيه ووباله ، إذ تجمع الزبانية أوائل المجرمين على أواخرهم ، وتتكلم بأوزارهم عظامهم وأعينهم وأيديهم وأرجلهم : { حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون } ، حين يوقفون على شفير جهنم تتحدث أجزاؤهم بما قدموه من قول وعمل لا تكتم منه شيئا ، فيلومون جلودهم وحواسهم وأوصالهم ، إذ أقرت بما يحتم عذابهم{ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون }{[21]} وترد عليهم الجلود بالحق ، وتلومهم على غفلتهم عن سر الخلق .
وهناك لن يحتاج كل فاجر نفسه وكفى ، بل كلما دخلت أمة لعنت أختها ، وإن للطاغين لشر مآب ، { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار . قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد }{[22]}{ ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون }{[23]} .
فاستجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ، { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد }{[24]} { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب . متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب }{[25]} ؛ فاستيقنوا بالبعث والحساب ، وتزوّدوا ليوم المآب ، ولا تشغلنكم عنه زخارف العاجلة فإنها سراب ، وابتغوا عند الله الحياة الطيبة وعظيم الثواب ، فقد وعد بذلك في محكم الكتاب : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب }{[26]} .
وبصّرت هذه السور بنفس الإنسان :
فالظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعلة لا يظلم
وصدق الله العظيم : { . . وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم . . }ّ{[27]} ؛ وأكثر البشر كنود ، ولنعمة ربه جحود { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل . . }{[28]} { فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة . . }{[29]} { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسّه الشر فذو دعاء عريض }{[30]} { . . وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور }{[31]} ؛ لكن المفلح من تزكى وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى وشكر أنعم الله ، وإذا أصابته مصيبة صبر وقال : إنا لله ، { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }{[32]} ؛ فلا تفتن بعلم ولا مال ولا جاه ، وقل : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم تبطرني السعة فأنساه-{ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه . . }{[33]} .
والكتاب الحكيم بيّن في واحدة من هذه السور دعوة مؤمن حكيم يكتم إيمانه ، أربع عشرة آية تتابعت تهدي للتي هي أقوم ، تبشر من آمن واتقى بالثواب الأكرم ، وتنذر المشركين بطش الجبار وحر جهنم ؛ وتبليغ رسالات الله يتصدى له منه لا يخشى سواه ؛ والمؤمن يُلْزِمُه الله تعالى بفضله كلمة التقوى ، ويهديه إلى الطيب اللين من القول ليذكر من يخشى ، وبالدعوة المستبصرة يتزكى من سبقت له الحسنى ؛ فلندع إلى ربنا بالبينات والهدى ، ولنترفق بمن ندعوهم ، لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا .
واستحفظنا ميثاق الحق في مواطن كثيرة من هذه السور ، فالكتاب العزيز نزل{[34]} بالحق ، وربنا استخلفنا لنقيم الحق{[35]} ، وخلق الله السماوات والأرض بالحق{[36]} ، وربنا يفصل بين عباده بالحق{[37]} ؛ وأثنى مولانا على من أخذ بحقه ممن عدا عليه{[38]} .
ومع تقديس العدل ، فقد حبب إلينا أن لا نغلق باب العفو والصفح نبلغ منازل أهل الفضل{[39]} .
والله يهدينا إلى صراطه المستقيم
وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .