الأولى- قوله تعالى : " ووصينا الإنسان بوالديه " هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصية لقمان . وقيل : إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه ، أخبر الله به عنه ، أي قال لقمان لابنه : لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك ، فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى . وقيل : أي وإذ قال لقمان لابنه ، فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه ، أي قلنا له اشكر لله ، وقلنا له ووصينا الإنسان . وقيل : وإذ قال لقمان لابنه ، لا تشرك ، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا ، وأمرنا الناس بهذا ، وأمر لقمان به ابنه ، ذكر هذه الأقوال القشيري . والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص ، كما تقدم في " العنكبوت " {[12580]} وعليه جماعة المفسرين .
وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان ، وتلزم طاعتهما في المباحات ، ويستحسن في ترك الطاعات الندب ، ومنه أمر الجهاد الكفاية ، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة ، على أن هذا أقوى من الندب ، لكن يعلل بخوف هلكة عليها ، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى{[12581]} من الندب . وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال : إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها .
الثانية- لما خص تعالى الأم بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب ، وللأب واحدة ، وأشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبر ؟ قال : ( أمك ) قال ثم من ؟ قال : ( أمك ) قال ثم من ؟ قال : ( أمك ) قال ثم من ؟ قال : ( أبوك ) فجعل له الربع من المبرة كما في هذه الآية ، وقد مضى هذا كله في " الإسراء " {[12582]} .
الثالثة- قوله تعالى : " وهنا على وهن " أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف . وقيل : المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل . وقرأ عيسى الثقفي : " وهنا على وهن " بفتح الهاء فيهما ؛ ورويت عن أبي عمرو ، وهما بمعنى واحد . قال قعنب بن أم صاحب :
هل للعواذل من ناهٍ فيزجُرُها *** إن العواذل فيها الأَيْنُ والوَهَنُ
يقال : وهن يهن ، ووهن يوهن ووهن ، يهن ، مثل ورم يرم . وانتصب " وهنا " على المصدر . ذكره القشيري . النحاس : على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر ، أي حملته بضعف على ضعف . وقرأ الجمهور : " وفصاله " وقرأ الحسن ويعقوب : " وفصله " وهما لغتان ، أي وفصاله في انقضاء عامين ، والمقصود من الفصال الفطام ، فعبّر بغايته ونهايته . ويقال : انفصل عن كذا أي تميّز ، وبه سمي الفصيل .
الرابعة- الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن فحّددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص . وقالت فرقة : العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع . وقالت فرقة : إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم ، وقد مضى هذا في " البقرة " {[12583]} مستوفى .
الخامسة- قوله تعالى : " أن اشكر لي " " أن " في موضع نصب في قول الزجاج ، وأن المعنى : ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي . النحاس : وأجود منه أن تكون " أن " مفسرة ، والمعنى : قلنا له أن اشكر لي ولوالديك . قيل : الشكر لله على نعمة الإيمان ، وللوالدين على نعمة التربية . وقال سفيان بن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما .
قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( 14 ) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يوصي الله بالوالدين في هذه الآية الحكيمة كغيرها من آيات أُخر فيهن توصية للأولاد ببر الوالدين والإحسان إليهما ، وحسن طاعتهما في غير معصية لله .
وذلك هو شأن الإسلام في إكرام الوالدين ، والاهتمام بهما ، وفعل ما يرضيهما ودفع الأذى والمكروه عنهما ، والحرص على كسب رضاهما ؛ طلبا لمرضاة الله . لا جرم أن رضى الله مقرون برضى الوالدين . فلا يرضى الله عن ولد عاق لوالديه أو أحدهما .
إن هذه الحقيقة الساطعة البلجة تكشف عن جمال الإسلام ، وإشراق منهجه للبشرية ، وهو يرسخ قواعد الرحمة والمحبة والود في المجتمع .
ويأتي في طليعة ذلك كله طاعة الوالدين على أمثل وأكرم ما تكون عليه الطاعة من تواضع أوفى ، وأدب رفيع جم ، وحياء غامر ودود ، وإجلال مستفيض يتقاطر من خصال الولد وهو يكرم والديه ويمد لهما كامل العون والإحسان .
على أن الترجيح لجانب الأم في كمال الطاعة لها ظاهر ، جزءا مكافئا ، لما بذلته من فرط العناء والحدب والنصب ، وهي ترعى ولدها وتدفع عنه الأذى والسوء . ولشدة ما لقيت في اضطلاعها بهذه الوجيبة من بالغ الحرص والجد والإشفاق عليه بدءا بكونه جنينا مستورا في أحشائها ، وانتهاء باندلاقه إلى الدنيا حيث الإرضاع والعناية والمكابدة المضنية كيما ينمو ولدها ويكبر ويترعرع ومن أجل ذلك فرض الإسلام للأم من عظيم التكريم وبالغ الطاعة والبر ما لم يفرضه لأحد سواها ، ولقد فرض لها ذلك كله مما ليس له نظير في تاريخ الشرائع والعقائد والديانات والملل كافة . ويدل على هذه الحقيقة من الأخبار ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، من أحقُّ الناس بحٌسن صحابتي ؟ قال " أمك " قال : ثم من ؟ قال : " أمك " قال : ثم من ؟ قال : " أمك " قال : ثم من ؟ قال : " أبوك " .
وفي رواية ، قال : يا رسول الله من أحق بحسن الصحبة ؟ قال " أمك ، ثم أمك ، ثم أمك ، ثم أباك ، ثم أباك " .
ومن جملة الاهتمام البالغ بالوالدين ، وجوب طاعتهما في المباحات ، ويستحسن ذلك في ترك المندوبات ، والطاعات على غير الأعيان ، مثل الجهاد على الكفاية ، والاستجابة لنداء الأم في الصلاة المسنونة مما يبيح قطع الصلاة " .
قوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } { وَهْنًا } ، منصوب على المصدر .
وقيل : منصوب على أنه مفعول ثان بتقدير حذف حرف الجر . أي حملته أمه بضعف على ضعف{[3647]} والمعنى المراد : أنه أمه حملته في بطنها ضعفا على ضعف وشدة على شدة . فكانت بذلك تزداد كل يوم ضعفا ومشقة وجهدا على جهد .
قوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } المراد بالفصال ، الفطام ، وقد عبّر عنه بغايته ونهايته وهو الفصال . والمعنى : أن إرضاعه بعد وضعه يستغرق عامين وهي المدة المثلى والأتم للرضاعة . كما قال تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } .
قوله : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } { أنِ } ، في موضع نصب على حذف حرف الجر ، وتقديره : بأن اشكر لي ولوالديك . وقيل : مفسرة بمعنى أي فيكون المعنى : قلنا له أن اشكر لي ولوالديك{[3648]} وذلك بما مننت به عليك من النعم الكثيرة ، وأولها نعمة الإيمان بالله إلها واحدا مقتدرا متفردا بالإلهية والربوبية . أما الشكر للوالدين فبما أفاضا على الولد من نعمة التربية والتنشئة والرعاية والحرص ، ويكون الشكر لهما بمختلف وجوه البر والحدب والإحسان والطاعة في غير معصية لله ، وبالدعاء والاستغفار لهما في حياتهما وعقب الممات . وفي ذلك روى أبو داود والبيهقي أن رجلا من بني سلمة قال : يا رسول الله هل بقي من برّ أبوي شيء أبرهما بعد موتهما ؟ قال " نعم : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما " .
قوله : { إلي المصير } الرجوع إلى الله يوم القيامة ، يوم الحساب والجزاء .