الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (102)

فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه .

فإن قلت : { مَعَهُ } بم يتعلق ؟ قلت : لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ ، أو بالسعي ، أو بمحذوف ، فلا يصح تعلقه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حدّ السعي ، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا تتقدم عليه ، فبقي أن يكون بياناً ، كأنه لما قال : فلما بلغ السعي أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعي قيل : مع من ؟ فقال مع أبيه . والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به ، وأعطفهم عليه ، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله ، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة . والمراد : أنه على غضاضة سنة وتقلبه في حدّ الطفولة ، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم : أتي في المنام فقيل له : اذبح ابنك ، ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة ، فلهذا قال : { إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } فذكر تأويل الرؤيا ، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة : رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة ، وقيل : رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان ؟ فمن ثم سمي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثم سمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهم بنحره فسمي يوم النحر . وقيل : إنّ الملائكة حين بشّرته بغلام حليم قال : هو إذن ذبيح الله . فلما ولد وبلغ حدّ السعي معه قيل له : أوف بنذرك { فانظر مَاذَا ترى } من الرأي على وجه المشاورة . وقرىء : «ماذا ترى » ، أي : ماذا تبصر من رأيك وتبديه . وماذا ترى ، على البناء للمفعول : أي : ماذا تريك نفسك من الرأي { افعل مَا تُؤمَرُ } أي ما تؤمر به ، فحذف الجار كما حذف من قوله :

أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ***

أوأمرك على إضافة المصدر إلى المفعول ، وتسمية المأمور به أمراً . وقرىء : «ما تؤمر به »

فإن قلت : لم شاوره في أمر هو حتم من الله ؟ قلت : لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته ، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله ، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع ، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم ، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها ، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به ، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله ، لأنّ المغافصة بالذبح مما يستمسج وليكون سنة في المشاورة ، فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك .

فإن قلت : لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة ؟ قلت : كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحي إلى أبيه ، وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخول المسجد الحرام في المنام ، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء ، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين ؛ لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام ، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما .