الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَيۡمَٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (2)

{ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } فيه معنيان ، أحدهما : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم ، من قولك : حلل فلان في يمينه ، إذا استثنى فيها . ومنه : حلا أبيت اللعن ، بمعنى : استثن في يمينك إذا أطلقها ؛ وذلك أن يقول : «إن شاء الله » عقيبها ، حتى لا يحنث . والثاني : قد شرع الله لكم تحلتها بالكفارة . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم " وقول ذي الرمّة :

قَلِيلاً كَتَحْلِيلِ الأُلِيِّ ***

فإن قلت : ما حكم تحريم الحلال ؟ قلت : قد اختلف فيه ، فأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرّمه ؛ فإذا حرّم طعاماً فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ؛ وإن نوى الظهار فظهار ؛ وإن نوى الطلاق فطلاق بائن «وكذلك إن نوى ثنتين وإن نوى ثلاثاً فكما نوى ، وإن قال : نويت الكذب ديِّن فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء . وإن قال : كل حلال عليّ حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يميناً . ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحده وحدهنّ ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده .

وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم : أنّ الحرام يمين وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي رضي الله عنه : ثلاث . وعن زيد : واحدة بائنة . وعن عثمان : ظهار . وكان مسروق لا يراه شيئاً ويقول : ما أبالي أحرمتها أم قصعة من ثريد ، وكذلك عن الشعبي قال : ليس بشيء ، محتجاً بقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] وقوله تعالى : { لا تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] وما لم يحرمه الله تعالى فليس لأحد أن يحرّمه ولا أن يصير بتحريمه حراماً ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليّ ، وإن امتنع من مارية ليمين تقدمت منه ، وهو قوله عليه الصلاة و السلام : والله لا أقربها بعد اليوم ، فقيل له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } أي لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعني : أقدم على ما حلفت عليه ، وكفر عن يمينك . ونحوه قوله تعالى : { وحرّمنا عليه المراضع } [ القصص : 12 ] أي ؛ منعناه منها . وظاهر قوله تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } أنه كانت منه يمين .

فإن قلت : هل كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ؟ قلت : عن الحسن : أنه لم يُكَفِّر ؛ لأنه كان مغفوراً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وإنما هو تعليم للمؤمنين . وعن مقاتل : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية { والله مولاكم } سيدكم ومتولي أموركم { وَهُوَ العليم } بما يصلحكم فيشرعه لكم { الحكيم } فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة . وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم ، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم .