تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَيۡمَٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (2)

الآية 2 : وقوله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }[ اختلف فيه أيضا ]{[21547]} : فمنهم من يحمل هذا على ابتداء الخطاب ، ويصرف المراد إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فلم يكن يحتاج إلى التكفير لإزالة المآثم .

ولكن نحن نقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان هذا تحلة ، فهو وأمته في أحكام الشرائع مأخوذون ، ويكون على هذا مغفرة زلاته : ما تقدم [ منها ]{[21548]} وما تأخر بمباشرة أسبابها من التوبة والكفارة ونحو ذلك . فيكون قوله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } منصرفا إلى النبي وأمته .

ثم يجوز أن يكون رسول [ الله قصد ]{[21549]} إلى التحريم ، أعني منع نفسه عن الانتفاع بهذا مع اعتقاد الحل لا إلى اليمين ، فجعل الله تعالى ذلك منه يمينا ، فيكون فيه دلالة على أن التحريم يمين . ¨

ولهذا قال أصحابنا ، رحمهم الله : إن من قال لإمرأته : أنت حرام علي ، ولا نية له ، فهو يمين .

وجائز أن يكون أفصح بالحلف ، فكنّى عنه باليمين .

ثم قوله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } على قراءة العامة . وفي بعض القراءات { قد فرض الله } كفارة{[21550]}{ أيمانكم } .

ووجه الفرض فيه أن الأمم من قبل ، لم يؤذن لهم بالحنث في اليمين ، ولا أن يحلوا منها بالكفارة .

ألا ترى إلى قوله تعالى { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } { ص : 44 ] فلم يأذن له بالحنث ، وأباح له الضرب ، ثم أباح بهذه الآية حل اليمين بالحنث والكفارة ، فنسب الحل إلى الكفارة { مرة ]{[21551]} ومرة إلى إحلالها بنفسها من جهة الحنث .

ثم قوله تعالى : { قد فرض الله لكم } أي وسع عليكم ، وأحل لكم { تحلة أيمانكم } .

ففي هذا أن كل ما ذكر فيه : { كتب لهم } { التوبة : 120 ، و 121 ] أي فرض لكم فهو موضع الإباحة والتوسع وما ذكر { عليكم } فهو على الإيجاب والإلزام ، قال الله تعالى : { كتب عليكم الصيام } { البقرة : 183 ] وقال { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } { البقرة 180 ] وذلك كله في موضع الوجوب .

وقال الله تعالى : { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } { المائدة 21 ] معناه أباح لكم الدخول فيها .

وقوله تعالى : { والله مولاكم } أي أولى بكم في ما امتحنكم من الكفارة وغيرها ، أو أولى بكم في نصركم / 587-ب / والدفع عنكم .

وقوله تعالى : { وهو العليم الحكيم } أي العليم بمصالحكم أو مقاصدكم ، أو بما تسرّون وما تعلنون ، أو بما كان ويكون ، الحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، أو حكيم بما حكم عليكم من تحلّة الأيمان ، والله اعلم .

ثم في قوله : { العليم } إلزام المراقبة والمحافظة ودعائه إلى التبصر والتيقظ في كل ما يتعاطاه المرء من الأفعال ، ويأتي به من الأقوال .

وفي قوله : { الحكيم } دعاء إلى التسليم بحكم الله تعالى ، إذ الحكيم لا يحكم على أحد إلا بما فيه حكمة وفائدة فألزمه {[21552]} تسليم النفس بعلمه {[21553]} على وجه الحكمة فيه أو جهله .

ثم الأصل بعد هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيح له نكاح التسع ، وأمر بأن يحسن صحبتهن ، ويبتغي مرضاتهن . والمرء يعسر عليه صحبة الأربع بحسن العشرة ، ويتعذر عليه القيام بمرضاتهن جميعا ، فكيف إذا امتحن بصحبة التسع ؟ .

فكانت المحنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر النساء أعسر منه على غيره وأمر مع هذا أيضا بمعاملة مع اختلاف همهم وأطوارهم بأحسن المعاملة ، ولكن الله تعالى لما امتحنه بما ذكرناه {[21554]}آتاه من الأخلاق والشمائل المرضية ما خفف بها عليه هذه المحنة ، وسهّل عليه المعاملة مع الجملة ، وآتاه من القوة ما ملك بها حفظ حقوقهن وإرضاء جملتهن حتى بلغ في حسن العشرة وابتغاء المرضاة ما عوتب عليه ، وبلغ من جهده في الإسلام إلى أن { قال عز وجل ]{[21555]}{ عبس وتولى } [ عبس : 1 ] وبلغ في الشفقة والرحمة على الأمة حتى [ قال الله عز وجل ]{[21556]} { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } { فاطر : 8 ] وقال : { وإنك لعلى خلق عظيم } { القلم : 4 ] .

وكان من عظيم خلقه بما جاوز خلقه قوة نفسه { حتى كادت ]{[21557]} نفسه تهلك فيه ، ثم في قيامه عليه السلام بوفاة حقوق التسع وإرضائهن دلالة نبوته ورسالته ، لأن الناس إنما يقوون على الجماع بما يصيبون من الأطعمة والأغذية ، ثم هم مع إصابتهم فضول الأطعمة والأشياء اللذيذة يفترون عن إيفاء حقوقهن . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آثر الزهد في الدنيا وقلة رغبته في مطاعمها ومشاربها ، وكان مع ذلك يفي بحقوقهن . فعلم بهذا أنه إنما وصل إلى ما ذكرنا بما قوّاه الله عليه ، وأقدره ، لا بالحيل والأسباب .

ثم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم امتحن بالقيام بوفاء حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ينظرن إليه بعين التبجيل والتعظيم ، فكانت المحنة عليهن أشد من المحنة على غيرهن من النساء مع أزواجهن ، لأن المرأة قلما تسلم من رفع صوتها على صوت زوجها ، إذا لم تكن له امرأة سواها . فكيف إذا كانت معها أخرى ؟

ثم هن لو رفعت أصواتهن على صوت رسول الله أوجب ذلك إحباط عملهن على ما قال تعالى : { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وانتم لا تشعرون } { الحجرات : 2 ] فلا يجوز أن يمتحن بهذه الكلفة الشديدة والمحنة العظيمة إلا بما شرح الله صدروهن وبفسخ قلوبهن لاحتمال ذلك .

ثم المحنة علينا بعد هذا أشد من المحنتين اللتين ذكرناهما لأنا امتحنّا بمعرفة ما تضمنته الآية والاعتقاد بذلك ، وهي قوله : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } { التحريم : 1 ] فالذي علينا من المحنة أن نصرف الأمر على وجه لا يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنسلم من المؤاخذة .

فجائز أن يصرف إلى ما ذكرنا من تخفيف الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون الآية في موضع تخفيف الأمر عليه ليس في موضع النهي ، وإن خرجت مخرج النهي في الظاهر .

وجائز أن يكون العتاب لمكان مارية { إن كانت ] {[21558]}قصة التحريم من أجلها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أذن له بإمساك مارية ، ولم ينذب إلى تزويجها لتصل إلى قضاء شهوتها من قبل الأزواج ، فإنما يتوصل إلى تسكين شهوتها برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بتحريمها على نفسه لم يمنع عنها الحق ، إذ الأمة ، لا حظ لها في القسم ، فيلحقه العتاب في هذه الجهة .

ولكن لما كان لها فيه مطمع ، وهو بالتحريم قطع طعمها { قال له عز وجل ] {[21559]}{ لم تحرم ما أحل الله لك } { التحريم : 1 ] أي لما تمنع نفسك عن قضاء شهوة أباح الله لها قضاء تلك الشهوة ، فيكون في العتاب دعاء إلى أن يعمل بأخير الوجهين وأخيرهما أن يوصلها إلى ما طمعت منه لا أن يقطع طمعها عنه ، وإن لم يكن لها في ما طمعت حق ، والله أعلم .

والمحنة الثانية علينا ألا ننسب إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكره أنفسنا نسبة مثله إلى الأمهات ، لأن لأزواجه علينا حق الأمهات ، فإن أمكننا أن نخرج من أمرهن وجها ، يسلم { من ] {[21560]} تنقصهن ، فعلنا ، وإلا أمسكنا عن ذكره خشية التنقص وترك التبجيل والتعظيم .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } { النور : 12 ] وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يظن بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم { وألا يرضى ] {[21561]} عنهن إلا خيرا ، وألا { ينظر إليهن ] {[21562]} إلا بعين التعظيم ، وقوله {[21563]} أيضا { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } { النور : 16 ] .

وإذا كان هذا حقهن علينا فلا يجب أن نذكر زلتهن : كانت كيت بما يتوهم أن تكون زلتهن دون الذي خطر على بالنا ، فنكون قد أعظمنا القول فيهن ، فيصيبنا من ذلك عذاب عظيم كما قال عز وجل : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم } { النور : 1 ]

ولقائل أن يقول في قوله : { هذا بهتان عظيم } { النور : 16 ] من أي وجه صار بهتانا عظيما . ونساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن معصومات ، بل كان يتوهم منهن الصنع الذي رمين به ؟

فجوابه أن أزواجه كن بالمحل الذي كن ابتلين بزلة سرا وجهرا ، أطلع الله تعالى على ذلك نبيه عليه السلام .

ألا ترى أن إحداهن لما أفشت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أخرى أطلع الله تعالى نبيه على ذلك ؟ وإذا كان لا يستر عليهن هذا القدر من الزلة فكيف يستر عليهن فعل الزنى منهن ؟ فلو وجد من التي رميت فعل الزنى لكان يسبق الإطلاع من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجري به التحادث على ألسن الخلق . فإن لم يسبق أوجب ذلك المعنى براءة ساحتها عما رميت به ، وصار الرامي لها به قائلا بالبهتان والزور .

وفي هذه الآية دلالة جواز العمل بالاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذن سبق من الله تعالى : إذ لو كان الإذن سابقا لما عوتب عليه .

ثم قد ذكرنا [ أنه ]{[21564]} لم يعاتب لزلة ارتكبها حتى يكون فيه منع عن العمل بالاجتهاد ، وإنما عوتب لمكان ما حمل على نفسه من فضل المؤونة في العشرة .

ثم الأصل أن الإماء ، لا حظ لهن في القسم ، وليس لهن من الآثام ما يكون مثله في الحرائر حتى كان يقسم لها ، فيؤدي فيه حقها . وقد أذن له في إمساكها وألا يتزوجها ، فلا يجوز ألا يؤمن بتزويجها ثم هو لا يسكن شهوتها ، ثم هو إنما يصل إلى قضاء وطرها وتسكين /579 أ/شهوتها في نوبة ذلك اليوم لزوجة من زوجاته .

فجائز أن يكون الله تعالى أكرمه أن يسكن شهوتها ، ويأتيها من حيث لا يعلمه أزواجه بذلك ، ثم أطلع بعض نسائه على فعله ليعلمن أن المحنة عليهن بعد{[21565]} العلم وقبل العلم واحدة ، وأن عليهن أن يعظمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وألا يحملن العنوة على الاستقبال له بالمكروه والنظر إليه بالتنقص ، إذ لم يكن عليهن في ما يأتي تلك الأمة في أيامهن تقصير في حقهن ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطي من القوة في الجماع ما يطوف على جملة نسائه في ليلة واحدة .

وأما ما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كف نفسه عن شرب العسل ، فذلك يحتمل أيضا ، ولكن ما ذكر من تحريم مارية أمكن ، لأنه لا يحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شرب العسل من الرغبة ما يدخل على نسائه المكروه لأجله ، وجائز أن يلحقهن في استمتاعه بأمته مكروه ، فيحملهن ذلك على ما ذكر{ فقد صغت قلوبكما }[ التحريم : 4 ] .


[21547]:اقطة من الأصل و م.
[21548]:اقطة من الأصل و م.
[21549]:من م، ساقطة من الأصل.
[21550]:انظر معجم القراءات ج 7/175
[21551]:في الأصل وم: فلزمه.
[21552]:في الأصل وم: فلزمه
[21553]:في الأصل وم: بحكمه.
[21554]:من،في الأصل: ذكره
[21555]:في الأصل وم: قيل.
[21556]:في الأصل وم: قيل له
[21557]:في الأصل وم: فكادت.
[21558]:من م ساقطة من الأصل.
[21559]:في الأصل: فقيل لها،في م: فقيل له.
[21560]:من م،ساقطة من الأصل.
[21561]:في الأصل وم: ويرضى.
[21562]:من م،في الأصل: ينظرون.
[21563]:في الأصل وم: وقال.
[21564]:ساقطة من الأصل و م.
[21565]:أدرج قبلها في الأصل:من.