وقال زفر : هو يمين في الكل ، حتى في الحركة والسكون ، واستدل المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم العسل ، فلزمته الكفَّارة ، وقد قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فسماه يميناً .
قال القرطبي{[57148]} : ودليلنا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا }[ المائدة : 87 ] . وقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ }[ يونس : 59 ] .
فذم اللَّهُ المُحَرِّمَ للحلال ، ولم يوجب عليه كفارة .
قال الزجاجُ{[57149]} : ليس لأحدٍ أن يحرم ما أحلَّ الله ، ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه .
فمن قال لزوجته أو أمته ، أنت عليَّ حرام ، فإن لم يَنْوِ طلاقاً ، ولا ظهاراً فهذا اللفظ يوجب عليه كفارة يمين ، ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء ، فعليه كفارة واحدة .
ولو حرم على نفسه طعاماً ، أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك ، ويجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة .
فصل في اختلافهم هل التحريم طلاق ؟
إذا قال الرَّجُلُ لزوجته : «أنْتِ عليَّ حَرَامٌ » .
قال القرطبيُّ{[57150]} : «فيه ثمانية عشر قولاً :
أحدها : لا شيء عليه ، وبه قال الشعبي ، ومسروق ، وربيعة ، وأبو سلمة ، وأصبغ ، وهو عندهم كتحريم الماءِ ، والطعام ، قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ }[ المائدة : 87 ] . والزوجة من الطَّيِّبات ، ومما أحل الله .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] .
فما لم يحرمه الله ، فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراماً ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليَّ ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه ، وهو قوله : " واللَّهِ لا أقربُهَا بَعْدَ اليَوْمِ " .
وروى البغويُّ في تفسيره{[57151]} : أن حفصة لما أخبرت عائشة ، غضبت عائشةُ ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف ألاَّ يقربها ، فقيل له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } ؟ أي : لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعني : أقدم عليه ، وكفِّر .
وثانيها : أنه يمين يكفرها ، قاله أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي ، وهو مقتضى الآية .
قال سعيدُ بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ : إذا حرم الرجل عليه امرأته ، فإنما هي يمينٌ بكفرها .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لَقَدْ كَان لكُمْ في رسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ .
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته ، فقال تعالى : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } إلى قوله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفَّر عن يمينه ، وصيَّر الحرام يميناً{[57152]} ، خرجه الدارقطني .
وثالثها : أنه يجب فيها كفَّارة ، وليست بيمين ، قاله ابن مسعود ؛ لأن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفَّارة على المعنى ، والآية ترده .
ورابعها : هي ظهارٌ ، ففيها كفارة الظهارِ ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق ، ولأنه إنما حرم وطؤها ، والظهار أقل درجات التحريم .
وخامسها : أنه إن نوى الظهار كان ظهاراً ، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين ، وإن لم يَنْوِ فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي .
وسادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب ، والزهري ، وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون .
وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان ، وزيد بن ثابت ، ورواه ابن خويزمنداد عن مالك ؛ ولأن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة .
وثامنها : أنها ثلاث تطليقات . قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت أيضاً ، وأبو هريرة ؛ لأنه التحريم المتيقن .
وتاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في المدخول بها . قاله علي بن زيد والحسن والحكم ، وهو مشهور مذهب مالك ؛ لأن غير المدخول بها تبينها الطلقة ، وتحرمها .
وعاشرها : هي ثلاث ، ولا ينوي بحال ، ولا في محل ، وإن لم يدخل بها ، قاله عبد الملك في «المبسوطة » ، وبه قال ابن أبي ليلى ؛ لأنه أخذ بالحُكْمِ الأعظم لهما ؛ لأنه لو صرح بالثلاث لغير المدخول بها لنفذ .
وحادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ، ومحمد بن الحكم .
وثاني عشرها : أنه إن نوى الطَّلاق ، والظهار كان ما نوى ، وإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً ، فإن نوى اثنتين ألزمناه .
وثالث عشرها : أنه لا ينعقد نيّة الظِّهار ، وإنما يكون طلاقاً . قاله ابن القاسم .
ورابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقاً ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها ، حتى يكفر كفارة الظِّهار .
وخامس عشرها : إن نوى الطلاق ، فما أراد من أعداده ، وإن نوى واحدة فهي رجعية ، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين .
وساس عشرها : إن نوى ثلاثاً ، فثلاثاً ، وإن نوى واحدة ، فواحدة ، وإن نوى يميناً ، فهي يمينٌ ، وإن لم ينو شيئاً ، فلا شيء عليه ، وهو قول سفيان ، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : لم ينو شيئاً فهي واحدة .
وسابع عشرها : له نيتُهُ ولا يكون أقلّ من واحدة ، قاله ابن شهاب ، وإن لم ينو شيئاً لم يَكُنْ شيئاً .
قال ابن العربي{[57153]} : «ورأيت لسعيد بن جبير ، وهو :
الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهاراً ، ولست أعلم لها وجهاً ، ولا يبعد في المقالات عندي » .
قال القرطبي{[57154]} : وقد روى الدارقطني عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عليَّ حراماً ، فقال : كذبت ، ليست عليك بحرامٍ ، ثم تلا : { يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفَّارات عتق رقبة{[57155]} ، وقد قال جماعة من المفسرين : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم قاله زيد بن أسلم وغيره " .
هذا كله في الزوجة ، وأما الأمةُ [ فليس ]{[57156]} فيها شيء من ذلك إلاَّ أن ينوي العتق عند مالك ، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفَّارة يمين .
قال ابن العربي{[57157]} : " والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله ، وهو الواحدة إلا أن يعدده ، فكذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول : أنت عليَّ حرامٌ إلا بعد زوج ، فهذا نص في المراد " .
قال ابن الخطيب{[57158]} : قال صاحب " النظم " : قوله : " لِمَ تُحَرِّمُ " استفهام بمعنى الإنكار ، وذلك من اللَّه نهيٌ ، وتحريم الحلال مكروه ؛ لأن الحلال لا يحرم إلا بتحريمِ اللَّهِ تعالى .
فإن قيل : قوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب ، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم ؟ .
فالجوابُ : أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب ، بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي .
فإن قيل : تحريم ما أحلَّ اللَّهُ غير ممكن ، فكيف قال : لم تحرم ما أحل الله ؟ فالجواب : أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج ؛ لاعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى ، فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً ؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله - تعالى - فقد كفر ، فكيف يضاف إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل هذا ؟ .
يجوز أن يكون حالاً من فاعل " تُحَرِّمُ " ، أي : لم تحرم مبتغياً به مرضات أزواجك .
ويجوز أن يكون تفسيراً ل " تُحَرِّمُ " .
ويجوز أن يكون مستأنفاً ، فهو جواب للسؤال .
و " مَرْضَاتَ " اسم مصدر ، وهو الرضا ، وأصله " مرضوة " .
والمصدر هنا مضاف إما للمفعول ، أو للفاعل ، أي : ترضي أنت أزواجك أو أن ترْضَيْنَ .
والمعنى : يفعل ذلك طلباً لرضاهن { والله غَفُورٌ } أي : لما أوجب المعاتبة { رَّحِيمٌ } برفع المُؤاخذةِ .
قال القرطبيُّ{[57159]} : " وقد قيل : إن ذلك كان ذنباً من الصَّغائر ، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ، ولا كبيرة " .
قوله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .
{ فَرَضَ الله لَكُمْ } أي : بيَّن لكم ، كقوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] وقيل : قد أوجب الله .
وقال صاحب «النظم »{[57160]} : إذا وصل «فَرَضَ » ب «عَلَى » لم تحتمل غير الإيجاب كقوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ }[ الأحزاب : 50 ] ، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين .
قوله : { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .
تحليل اليمين كفَّارتها ، أي : إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه ، وهو قوله تعالى في سورة «المائدة » : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ }[ الآية : 89 ] .
قال القرطبيُّ{[57161]} : وتحصل من هذا أن من حرم شيئاً من المأكول ، أو المشروب لم يحرم عليه ؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم ، وأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيءٍ ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم ، فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائنٌ ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثاً ، وإن قال : نويتُ الكذب دينَ فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء ، وإن قال : كل حلال عليه حرام ، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يميناً ، ويكون في الكفارة وجهان :
مصدر «حَلّل » مضعفاً ، نحو «تكرمة » ، وهذان ليسا [ مقيسين ]{[57162]} ، فإن قياس مصدر «فَعَّلَ » «التفعيل » إذا كان صحيحاً غير مهموزٍ .
فأما المعتل اللام نحو «زكَّى » ومهموزها نحو : «نبَّأ » فمصدرهما «تَفْعِلَةٌ » نحو : «تَزْكِيَةٌ ، وتَنْبِئَةٌ » .
على أنه قد جاء «التفعيل » كاملاً في المعتل ، نحو : [ الرجز ]
4784 - بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا *** . . . {[57163]}
وأصلها : «تَحْلِلَة » ك «تَكْرِمَة » فأدغمت ، وانتصابها على المفعول به .
فصل في تكفير النبي عن هذه اليمين
قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه .
وقال الحسنُ : لم يكفر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر{[57164]} .
وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة ، والأول أصح ، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك ، وقد تقدم عن زيد بن أسلم أنه - عليه الصلاة والسلام - كفر بعتق رقبةٍ .
وعن مقاتل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبةً في تحريم مارية{[57165]} . والله أعلم .
قبل : قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين ، فبين في قوله تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله }[ الأحزاب : 38 ] ، أي : فيما شرعه له في النساء المحللات ، أي : حلل لكم ملك اليمين ، فلم تحرم مارية في نفسك مع تحليل الله إياها لك .
وقيل : تحلة اليمين الاستثناء ، أي : فرض اللَّهُ لكم الاستثناء المخرج عن اليمين ، ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء ، وإن تخَلَّلَ مُدَّةٌ .
وعند الجمهور لا يجوز إلا متصلاً ، فكأنه قال : «استثن بعد هذا فيما تحلف عليه » وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة .
قال القرطبيُّ{[57166]} : «والأصل " تحللة " ، فأدغمت ، و " تَفْعِلَة " من مصادر " فَعَّل " كالتوصية والتسمية ، فالتحلية تحليل اليمين ، فكأن اليمين عقد ، والكفارة حلٌّ وقيل : التحلة الكفارة ، أي : أنها تحلُّ للحالف ما حرَّم على نفسه ، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف » .
قال ابن الخطيب{[57167]} : وتحلة القسم على وجهين :
أحدهما : تحليله بالكفارة كما في هذه الآية .
وثانيهما : أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر ، كما روي من قوله - عليه الصلاة والسلام - : «لَنْ تَلِجَ النَّارَ إلا تحِلَّةَ القسمِ »{[57168]} أي : زماناً يسيراً .
وقرئ : «كفَّارة أيمانِكُم »{[57169]} .
قوله : { والله مَوْلاَكُمْ } .
أي : وليّكم وناصركم في إزالة الحظر ، فيما تحرمونه على أنفسكم ، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفَّارة ، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة { وَهُوَ العليم الحكيم } .