اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَـٰٓؤُلَآءِ شُفَعَـٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (18)

قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ } الآية .

لمَّا طلبُوا تبديل القرآن ؛ لأنَّه مشتملٌ على ذمِّ الأصنامِ التي اتَّخذُوها آلهةً ، ذكر في هذا الموضع قبح عبادة الأصنام ، ليُبيِّنَ تحقيرَها .

قوله : " مَا لاَ يَضُرُّهُمْ " : " ما " موصولةٌ ، أو نكرةٌ موصوفةٌ ، وهي واقعةٌ على الأصنامِ ، ولذلك راعى لفظها ، فأفرد في قوله " مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ " ، وراعى معناها فجمع في قوله : " هؤلاء شُفَعَاؤُنَا " .

فصل

المعنى : ما لا يضُرُّهُمْ إن عصوه ، وتركُوا عبادته ، ولا ينفعهم إن عبدوه ، يعني : الأصنام { وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } ، فقيل : إنَّهم اعتقدُوا أنَّ المُتولِّي لكل إقليم ، روح معيَّن من أرواح الأفلاك ، فعيَّنُوا لذلك الرُّوح صنماً معيَّناً ، واشتغلوا بعبادة ذلك الصَّنَم ، ومقصودهم عبادةُ ذلك الرُّوح ، ثم اعتقدُوا أن ذلك الرُّوح ، يكون عبداً للإله الأعظم ، ومشتغلاً بعبوديَّته .

وقيل : إنَّهم كانُوا يعبدُون الكواكب ، فوضعُوا لها أصناماً مُعَيَّنة واشتغلوا بعبادتها ، ومقصودُهُم عبادةُ الكواكبِ ، وقيل : إنَّهم وضعُوا طلَّسْمَاتٍ معينةً على تلك الأوثان والأصنام ، ثم تقرَّبوا إليها .

وقيل : إنَّهُم وضعوا هذه الأوثان والأصنام ، على صور أنبيائهم ، وأكابرهم ، وزعمُوا أنَّهُم متى اشتغلُوا بعبادةِ هذه التماثيل ، فإنَّ أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله .

قوله : " قُلْ أَتُنَبِّئُونَ " قرأ بعضهم{[18350]} : " أتُنْبِئُونَ " مخففاً من " أنْبَأ " ، يقال : أنْبَأ ونَبَّأ كأخْبرَ وخبَّرَ ، وقوله : " بِمَا لاَ يَعْلَمُ " " مَا " موصولةٌ ، أو نكرة موصوفة كالتي تقدَّمت ، وعلى كلا التقديرين : فالعائدُ محذوفٌ ، أي : يعلمُهُ ، والفاعلُ هو ضمير الباري - تعالى - ، والمعنى : أتُنَبِّئُونَ الله بالمعنى الذي لا يعلمُهُ إلاَّ الله ، وإذا لم يعلم الله شيئاً ، استحال وجودُ ذلك الشيء ؛ لأنَّه - تعالى - لا يغربُ عن علمه شيءٌ ، وذلك الشيء هو الشَّفاعة ، ف " مَا " عبارة عن الشفاعة .

والمعنى : أنَّ الشَّفاعة لو كانت لعلمها الباري - تعالى - ، ومثل هذا الكلام مشهورٌ في العرف ، فإنَّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه ، يقول : ما علم الله هذا منِّي ، ومقصوده : أنَّ ذلكَ ما حصل أصلاً .

وقوله : { فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } تأكيدٌ لنفيه ؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ لا يخرج عنهما . ويجوز أن تكون " مَا " عبارة عن الأصنام ، وفاعل " يَعْلَمُ " : ضميرٌ عائدٌ عليها .

والمعنى : أتُعلمون الله بالأصنامِ ، التي لا تعلم شيئاً في السماوات ولا في الأرض ، وإذا ثبت أنها لا تعلم ، فكيف تشفع ؟ والشافع لا بدَّ وأن يعرف الشمفوع عنده ، والمشفوع له ؛ هكذا أعربه أبو حيَّان ، فجعل " مَا " عبارة عن الأصنام ، لا عن الشَّفاعة ، والأول أظهر ، و " مَا " في " عمَّا يُشْركُونَ " يحتمل أن تكون بمعنى : " الَّذي " أي : عن شركائهم الذين يشركونهم به في العبادة ، أو مصدريةٌ ، أي : عن إشراكهم به غيرهم ، وقرأ الأخوان{[18351]} هنا " عمَّا يُشْرِكُونَ " ، وفي النَّحْل موضعين :

الأول : { عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملائكة } [ النحل : 1 ، 2 ] .

الثاني : { بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النحل : 3 ] .

وفي الروم : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الروم : 40 ] بتاء الخطاب ، والباقون بالغيبة في الجميع ، وهما واضحتان ، وأتى هنا ب " يَشْرِكونَ " مضارعاً دون الماضي ، تنبيهاً على استمرار حالهم كما جاءُوا يعبدون ، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي .


[18350]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/107، الكشاف 2/336، البحر المحيط 5/138، الدر المصون 4/15.
[18351]:ينظر: السبعة ص (324)، الحجة 4/263، حجة القراءات ص (329)، إعراب القراءات 1/265، إتحاف 2/107.