اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (16)

قوله تعالى : { قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } الآية .

لمَّا اتَّهمُوه بأنَّه أتى بهذا الكتاب من عند نفسه ، احتجَّ عليهم بهذه الآية ؛ وذلك بأنَّهم كانُوا عالمين بأحواله ، وأنَّه ما طالع كتاباً ، ولا تتلمَذ لأستاذ ، ثم بعد أربعين سنة ، أتى بهذا الكتاب العظيم المُشتَمل على نفائس علم الأصُول ، ودقائق علم الأحكام ، ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأوَّلين ، وعجز عن معارضته العلماء ، والفُصحاء ، والبُلغاء ، فكل من له عقلٌ سليمٌ يعرف أنَّ مثل هذا ، لا يحصُل إلاَّ بالوحْي ، والإلهام من الله - تعالى - ، والمعنى : لو شاء الله ما أنزل القرآن عليَّ .

قوله : " وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ " أي ولا أعلمكم الله به ، من دَريْتُ ، أي : عَلِمْتُ .

ويقال : دَرَيْتُ بكذا وأدْرَيْتُكَ بكذا ، أي : أحطت به بطريق الدِّراية ، وكذلك في " عَلِمْتُ به " ؛ فتضمَّن العلمُ معنى الإحاطة ، فتعَدَّى تعْديتَهَا .

وقرأ{[18344]} ابن كثير - بخلاف عن البزِّيِّ - " ولأدْرَاكم " ، بلام داخلة على " أدْرَاكم " مُثبتاً ، والمعنى : ولأعْلِمكُم به من غير وساطتي : إمَّا بواسطة ملكٍ ، أو رسولٍ غيري من البشر ، ولكنَّه خَصَّنِي بهذه الفضيلةِ ، وقراءةُ الجمهور " لا " فيها مُؤكَّدَةٌ ؛ لأنَّ المعطوف على المنفيِّ منفيٌّ ، وليست " لا " هذه هي التي يُنفى بها الفعلُ ؛ لأنَّه لا يصحُّ نفي الفعل بها إذا وقع جواباً ، والمعطوفُ على الجواب جوابٌ ، ولو قلت : " ولو كان كذا لا كان كذا " لم يجُزْ ، بل تقول " ما كَانَ كذا " ، وقرأ ابنُ عبَّاس{[18345]} ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبو رجاء : " ولاَ أدْرَأكم " بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الرَّاء ، وفي هذه القراءة تخريجان :

أحدهما : أنها مبدلةٌ من ألف ، والألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ ، لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعقيلٍ حكاها قطرب ، يقولون في أعطيتُك : أعطأتُك .

وقال أبو حاتم : " قلب الحسنُ الياء ألفاً ، كما في لغة بني الحرث ، يقولون : علاكَ وإلاكَ ، ثمَّ همز على لغة من قال في العالم : العألم " .

وقيل : أبدلتِ الهمزة من نفس الياء ، نحو : لَبَأتُ بالحجِّ ، ورثَأتُ فلاناً ، أي : لَبَّيْتُ ورَثَيْتُ .

والثاني : أنَّ الهمزة أصليَّة ، وأنَّ اشتقاقه من الدَّرْء وهو الدَّفْع ، كقوله : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } [ النور : 8 ] ، ويقال : أدْرَأته ، أي : جعلته دَارئاً ، والمعنى : ولأجعلنَّكم بتلاوته خُصماء تَدْرَؤونني بالجدال ، قال أبُو البقاء : " وقيل هو غلط ؛ لأنَّ قارئها ظَنَّ أنَّها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ ؛ وقيل : ليس بغلطٍ ، والمعنى : لو شاء اللهُ لدفعكم عن الإيمان به " .

وقرأ شهر{[18346]} بن حوشب ، والأعمش : " وَلاَ أنذَرْتكُم " من الإنذار ، وكذلك هي في مصحف عبد الله . قوله : " فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً " أي : حِيناً ، وهو أربعون سنة ، " مِّن قَبْلِهِ " أي : من قبل نُزُول القرآن ، فقيل : الضَّمير في " قبلِه " يعود على النُّزول ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على وقت النُّزُول ، و " عُمُراً " {[18347]} مشبَّهٌ بظرف الزَّمان ، فانتصب انتصابه ، أي : مدة متطاولة ، وقيل : هو على حذف مضافٍ ، أي : مقدار عُمُر ، وقرأ الأعمشُ : " عُمْراً " بسكون الميم ، كقولهم " عَضْد " في " عَضُد " .

ثم قال : " أَفَلاَ تَعْقِلُون " أنَّهُ ليس من قبلي ، قال المفسِّرون : لبث النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجدَّ وعظَّم فيهم قبل الوحْي أربعين سنة ، ثم أوحي إليه ، فأقام بمكَّة بعد الوحْي ثلاثة عشرة سنة ، ثم هاجر إلى المدينة ، فأقام بها عشر سنين ، ثم تُوفي ، وهو ابن ثلاث وستِّين سنة .

وروى أنس - رضي الله عنه - : أنه أقام بمكَّة بعد الوحي عشر سنين ، وبالمدينة عشر سنين ، وتُوُفِّي وهو ابن ستين سنة{[18348]} ، والأول أشهر وأظهر .


[18344]:ينظر: السبعة ص (324)، الحجة 4/259، حجة القراءات ص (328)، إعراب القراءات 1/263، إتحاف 2/105.
[18345]:ينظر: إتحاف 2/106، الكشاف 2/335، المحرر الوجيز 3/110، البحر المحيط 5/137، الدر المصون 4/14.
[18346]:ينظر: السابق.
[18347]:ينظر: الكشاف 2/335، البحر المحيط 5/137، الدر المصون 4/14.
[18348]:أخرجه البخاري (3547، 3548، 5900) ومسلم رقم (113/2347) والترمذي (3623) وفي الشمائل (384) وعبد الرزاق (6786) ومالك (2/919) وأحمد (3/240) وأبو يعلى (3572، 2590، 3637، 3638، 3640) والطبراني في "الصغير" (1/118) وابن حبان (8/101) رقم (6353) والبيهقي في "دلائل النبوة" (7/236) من طرق عن أنس بن مالك.