اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَٱخۡتَلَفُواْۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ فِيمَا فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (19)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } الآية .

لمَّا أقامَ الدَّلالة على فسادِ القول بعبادة الأصنام ؛ بيَّن السَّبب في كيفية حدوث هذه المسألة الباطلة ، فقال : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : على الدِّين الحقِّ ؛ لأن المقصود من هذه الآية ، بيان كون الكفر باطلاً ؛ لأنَّ قوله : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } [ البقرة : 213 ] في الإسلام أو في الكفر ، ولا يجوزُ أن يكونوا أمَّةً واحدة في الكفر ، فبقي أنَّهُم كانوا أمَّة واحدة في الإسلام ، لقوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] ، وشهيدُ الله لا بدَّ وأن يكون مُؤمناً ، فثبت أنَّهُ لم تخل أمَّة من الأممِ ، إلا وفيهم مؤمنٌ .

وقد وردت الأحاديث ، بأنَّ الأرض لا تخلُو عمَّن يعبد الله - عزَّ وجلَّ - ، وعن أقوام بهم يمطرُ أهل الأرض ، فثبت أنَّهُم ما كانُوا أمَّة واحدة في الكفر ، فيكونوا أمَّة واحدة في الإيمان ، ثم اختلفوا أنهم متى كانوا كذلك ؟ فقال ابن عباس ، ومجاهد - رضي الله عنهما - : كانوا على عهد آدمَ وولده صلوات الله البرِّ الرحيم والملائكة المقربين عليهما وسلامه دائماً ، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه للآخر .

وقيل إنَّهم بقُوا على الإيمان إلى زمن نوح - عليه الصلاة والسلام - ، ثم اختلفوا على عهد نوح ، فبعث الله إليهم نُوحاً{[18352]} .

وقيل : كانُوا على الإيمان من زمن نُوح بعد الغرق ، إلى أن ظهر الكفر فيهم .

وقيل : كانُوا على الإسلام من عهد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى أن غيَّره عمرو بن لحيّ .

وهذا القائل قال : إنَّ المراد بالنَّاس : العرب خاصَّة ، والغرض منه : أنَّ العرب إذا علمُوا أنَّ عبادة الأصنام ما كانت أصلاً فيهم ، وإنَّما هي حادثةٌ ، لم يتأذوا من تزييفِ الطريقة ، ولم تنفُر طباعهم من إبطال هذا المذهب الفاسد .

وقال قوم : كانوا أمَّةً واحدة في الكفر ، قالوا : وفائدة هذا الكلام : أنَّه - سبحانه وتعالى - جل ذكره - بيَّن للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ، أنَّه لا تطمع في أن يصير كلُّ من تدعُوه إلى الدِّين مجيباً له ، فإنَّ الناس كانُوا على الكفر ، وإنَّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك ، فيكف تطمعُ في اتِّفاق الكلِّ على الإيمان ؟ .

وقيل : المرادُ بكونهم أمَّةً واحدةً : أنَّهم خلقوا على فطرة الإسلام ، ثم اختلفوا في الأديان ، وإليه الإشارة بقوله - عليه الصلاة والسلام - " كلّ مولُودٍ يُولَدُ على فِطْرَةِ الإسلام ، فأبَواهُ يُهَوِّدَانهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ " {[18353]} .

ثم قال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } بأن جعل لكل أمة أجلا ، وقال الكلبي : هي إمهال هذه الأمة ، وأنه لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا{[18354]} ، " لقضي بينهم " بنزول العذاب ، وتعجيل العقوبة للمكذبين ، وكان ذلك فصلا بينهم ، " فيما فيه يختلفون " .

وقال الحسن-رحمه الله- " لولا كلمة سبقت من ربك " مضت في حكمه ، أنَّه لا يقضي بينهم فيما اختلفُوا فيه بالثَّواب والعقاب دون القيامة{[18355]} ، " لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ " في الدنيا ، فأدخل المُؤمن الجنَّة ، والكافر النَّار ، ولكن سبق من الله الأجل ، فجعل موعدهم يوم القيامة .


[18352]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/542) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/542) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18353]:أخرجه مالك (1/241) رقم (52) والبخاري (11/493) كتاب القدر: باب الله أعلم بما كانوا عاملين رقم (6599) ومسلم (4/2048) كتاب القدر: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة رقم (25/2658) وأحمد (2/233) وأبو داود كتاب السنة: باب في ذراري المشركين حديث (4714) والترمذي كتاب القدر: باب كل مولود يولد على الفطرة حديث (2223) من حديث أبي هريرة.
[18354]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/348) والقرطبي في "تفسيره" (8/206).
[18355]:انظر المصدر السابق.