اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنۡهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعۡدَ أُمَّةٍ أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِيلِهِۦ فَأَرۡسِلُونِ} (45)

فعند هذه المقالة تذكَّر السَّاقي واقعة يوسف عليه الصلاة والسلام لأنه كان يعتقدُ فيه كونه مُتَبحِّراً في هذا العلم .

قوله : " وادَّكَرَ " فيه وجهان :

أظهرهما : أنَّها جملة حالية ، إمَّا من الموصول ، وإما من عائده ، وهو فاعل نَجَا .

والثاني : أنها عطف على نَجَا فلا محل لها ؛ لنسقها على ما لا محل له .

والعامَّةُ على ادَّكَرَ بدالٍ مهلمة مشدَّدة ، وأصلها : اذْتَكَرَ ، افْتَعَلَ ، من الذكر فوقعت تاءُ الافتعال بعد الدال ؛ فأبدلت دالاً ، فاجتمع متقارن ؛ فأبدل الأول من جنس الثاني ، وأدغم .

قال الزخشريُّ : وادَّكَرَ بالدال هو الفصيحُ .

وقرأ الحسن البصريُّ : بذالٍ معجمة . ووجَّهوها بأنه أبدل التَّاء ذالاً ؛ من جنس الأولى ، وأدغم ، وكذا الحكمُ في مًُدِّكِر كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

والعامةُ : على ( أمة ) بضم الهمزة ، وتشديد الميم ، وتاء منونةِ ، وهي المدة الطويلة .

وقرأ الأشهب العقيليُّ : بكسر الهمزة ؛ وفسَّروها بالنعمةِ ، أي : بعد نعمةٍ [ أنعم بها ] عليه ؛ وهي خلاصه من السِّجن ، ونجاته من القَتلِ ؛ وأنشد الزمخشريُّ لعديِّ : [ الخفيف ]

3110 ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإمْمَةِ *** وارتْهُمُ هُناكَ القُبُورُ

وأنشد غيره : [ الطويل ]

3111 ألاَ لاَ أرَى ذَا أمَّةٍ أصْبَحَتْ بِهِ *** فَتتْرُكُه الأيَّامُ وهيَ كَماهِيَا

وقرأ ابن عبَّاس ، وزيدُ بنُ عليّ ، وقتادة ، الضحاك ، وأبو رجاء رضي الله عنهم " أَمَه " فتح الهمزة وتخفيف الميم منونة وهي المدة من الأمة وهو النيسان يقال أمِه يَأمَهُ أمَهَاً بفتح الميم وسكونها ، والسكون غير مقيسٍ ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]

3112 أمِهْتُ وكُنْتُ لا أنْسَى حَدِيثاً *** كَذاكَ الدَّهْرُ يُودِي بالعُقُولِ

وقرأ مجاهدٌ ، وشبل بن عزرة : بعد أمْه بسكون الميم ، وتقدَّم أنه مصدر ل " أَمِهَ " على غير قياسٍ .

قال الزمخشري : " ومن قرأ بسكون الميم ، فقد خُطِّىءَ " .

قال أبو حيَّان : " وهذه على عادته في نسبةِ الخطأ إلى القراء " .

قال شهابُ الدِّين رحمه الله : لَمْ يسنبْ إليهم خطأ ؛ وإنما حكى أنَّ بعضهم خطَّأ هذا القارىء ؛ فإنه قال : " خُطِّىءَ " بلفظ ما لم يسمَّ فاعله ولم يقل : فقد أخطأ ، على أنَّه إذا صحَّ أنَّ من ذكره قرأ بذلك فلا سبيل إلى نسبة الخطأ إليه ألبتَّة .

وبَعْدَ منصوب ب " ادَّكَرَ " وقوله أنَا أنَبِّئُكمْ هذه الجملة هي المحكية بالقول .

وقرأ العامة أنَبِّئُكُمْ من الإنْباءِ ، وقرأ الحسن أنا آتِيكُم مضارع أتى من الإتيانِ ، وهو قريب من الأول .

فصل

لمَّا اعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب ، فذكر الشَّرابيُّ قول يوسف { اذكرني عِندَ رَبِّكَ }

[ يوسف : 42 ] ، { بَعْدَ أُمَّةٍ } بعد حينٍ ، بعد سَبْعِ سنينَ ، وذلك أنَّ الحينَ أنَّما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة ، كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم ، فالحين كان أمة من الأيام والسَّاعاتِ . فإن قيل : قوله { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } يدل على أنّ الناسي هو الشرابي ، وأنتم تقولونك إنَّ النَّاسي هو يوسف عليه السلام .

فالجواب : قال ابنُ الأنباري : ادَّكرَ بمعنى : ذَكَرَ وأخْبَر ، فهذا لا يدلُّ على سبقِ النسيان ، فلعلَّ الساقي إنما لم يذكر يوسف عليه السلام عند الملكِ ، خوفاً عليه من أن يكون ادِّكَاراً لذنبه الذي من أجله حُبس ، فترك للشر ، ويحتمل أن يكون حصل النسيانُ ليوسف صلوات الله وسلامه عليه [ وحصل ] أيضاً لذلك الشرابي .

رُوِيَ أنَّ الغلام جثا بين يدي الملك ، وقال إنَّ بالسجْنِ رجُلاً يُعبِّر الرؤيا .

" فأرْسِلُون " خطابٌ ، إما للملك ، والجمع ، أو للملك وحده ؛ على سبيل التعظيم ، وفيه اختصارٌ ، تقديره : فأرسلْنِي إيها الملكُ إليه ، فأرسله فأتى السِّجن .

قال ابن عباس رضي الله عنه : ولم يكن السجن في المدينة .