اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ} (52)

قوله تعالى : " ذَلِكَ " خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ ، أي : الأمرُ ذلك ، و " لِيَعْلمَ " ، متعلقٌ بضميرٍ ، أي : أظهر ذلك ؛ ليعلم ، أو مبتدأ ، وخبره محذوفٌ ، أي : ذلك الذي صرَّحتُ به عن براءته ، أمرٌ من الله لا بُدَّ منه ، و " لِيَعْلمَ " متعلقُ بذلك الخبر ، أو يكون " ذَلِكَ " مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يتعلق به هذا الجار أيضاً ، أي : فعل الله ذلك ، أو فعلته أنا بتيسير الله .

قوله : " بِالغَيْبِ " يجوز أن تكون الباءُ ظرفية قال الزمخشريُّ : أي مكان الغيب ، وهو الخفاء ، والاستتارُ وراء الأباب السبعة المغلقةِ ، ويجوز أن تكون الباءُ للحالِ ، إمَّا من الفاعل ، على معنى : وأنا غائبٌ عنه خفي عن عينه .

وإمَّا من المعفولِ على معنى : وهو غائب عني خفي عن عيني .

" وأنَّ اللهَ " نسقٌ على " أنِّي " ، أي : ليعلم الأمرينِ ، وهذا من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه وبه بدأ الزمخشري ، كالمختار له .

وقال غيره : إنه من كلام امرأة العزيزِ ، وهو الظَّاهرُ .

فإن قلنا : هو من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام فمتى قالهُ ؟ .

وروى عطاءٌ ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم : أنَّ يوسف لما دخل على الملك ، قال " ذلكَ " ، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب .

قال ابنُ الخطيب : " والأولى أنه صلوات الله وسلامه عليه إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه ، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك ، سوء أدبٍ " .

فإن قيل : هذه الخيانة لو وقعت ، كانت في حقِّ العزيزِ ، فكيف قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ؟ .

فالجوابُ : قيل : المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ ، فتكون الهاءُ في " أخُنْهُ " تعود على العزيز .

وقيل : إنَّه إذا خان وزيره ، فقد خانه من بعض الوجوه .

وقيل : إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن ، قال : { ذلك لِيَعْلَمَ } ، العزيزُ { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } .

ثم ختم الكلام بقوله : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } ، ولعلَّ المراد منه : أني لو كنت خائناً ، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ ، وحيث خلصني منها ، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه .

وإن قلنا : إن قوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } كلام امرأة العزيز ، فالمعنى : أني ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره ، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته ؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } ، أيك لما أقدمتُ على الكيدِ ، والمكرِ ، لا جرم افتضحْتُ ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً ، لاجرم أظهره الله ، عز وعلا .

قال صاحبُ هذا القولِ : الي يدلُّ على صحَّتهِ : أنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما كان حاضراً في ذلك الملجلس حتَّى يقال : لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها : { الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } ، ففي تلك الحالة قال يوسف : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن ، ويذكر تلك الحكاية .

ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم ؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة .

قال القرطبي : وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز : " الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ " أي : أقررتُ بالصدقِ ؛ { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } بالكذب عليه ، ولم أذكره بسوءٍ ، وهو غائبٌ ، بل صدقتُ ، وزجرت عنه الخيانة ، ثم قالت : " ومَا أبرِّىءُ نَفسِي " ؛ بل أنا روادته وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع ؛ ولهذا قالت : { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

وقيل : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، مِنْ قولِ العزيز ، وإنِّي لم أغفل عن مجازاته على أمانته .

{ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } معناه : إنَّ الله لا يهدي الخائنين بكيدهم .

فصل

دلَّت هذه الآية على ظهارةِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه من الذنب من وجوه :

الأول : أن الملك لما أرسل إلى يوسف صلوات الله وسلامه عليه وطلبه ، فلو كان يوسف متهماً بفعلٍ قبيحٍ ، وقد كان صدر منه ذنبٌ ، وفحشٌ ؛ لاستحال بحسب العرفِ العادةِ ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة ، وكان ذلك سعياً منه في فضيحةِ نفسه ، وفي حمل الأعداءِ على أن يبالغوا في إظهار عيوبه .

والثاني : أنَّ النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ، ونزاهته ، { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] ، وفي المرة الثانية : { حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء } .

والثالث : أنَّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته ، حيثُ قالت : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم } [ يوسف : 32 ] ، وفي المرة الثانية قولها : { الآن حصحص الحق أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه صادقٌ في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] .

والرابع قول يوسف { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } .

قال ابن الخطيب : " الحشويَّةُ يذكرون أنَّه لما قال هذا الكلام ، قال جبريل عليه السلام : ولا حين هَمَمْتَ ، وهذا من رواياتهم الخبيثة ، وما صحَّت هذه الرواية في كتابٍ معتمدٍ ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريفِ ظاهر القرآن " .

والخامس : قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } ، يقتضي أن الخائن لا بدَّ أن يفتضح ، فلو كان خائناً ، لوجب أن يفتضحح ولما خلصه الله من هذه الورطة ، دلَّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين .

ووجه آخر : وهو أنَّ ت في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسةً ، فإقدامه في قوله { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، مع أنَّهُ [ خانه ] بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشةٍ عظيمةٍ ، وعلى كذبٍ عظيمٍ من غير أن يتعلق به مصلحة بوجهٍ ما ، والإقدامُ على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاًح لا يليق بأحدٍ من العقلاءِ ، فكيف يليق إسناده إلى سيِّد العقلاء ، وقدوة الأصفياء ، فثبت أنَّ هذه الآية تدلُّ دلالة قطعيَّة على براءته مما يقول الجُهَّال .