اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (51)

ثم إنه تعالى حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك ، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ ، وقال لهُّنَّ : " مَا خَطْبُكُنَّ " : ما شَأنُكُنَّ ، وأمركنَّ " إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ " ، وفيه وجهان :

الأول : أن قوله : " إذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ " ، وإن كان صيغة جمع ، فالمراد منها الواحد ؛ كقوله جلَّ ذكره : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] .

والثاني : أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة ، ثم هاهنا وجهان :

الأول : أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ روادتْ يوسف عن نفسه .

والثاني : أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ روادتْ يوسف ؛ لأجل امرأة العزيز ، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه .

وعند هذا السؤال { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء } ، وهذا كالتأكيد ؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه ، وهو قولهنَّ : { مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] .

وقوله " إذْ رَوادتنَّ " ، هذا الظرف منصوبٌ ب " خَطْبُكُنَّ " ؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى : ما فعلتُنَّ ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ .

وكانت امرأةُ العزيز حاضرة ، وكانت تعلم أن هذه المناظرات ، والتفحصات ، إنما وقعت بسببها ، ولأجلها . وقيل : إ نَّ النسوة أقبلن على امرأة العزيز يقررنها .

وقيل : خَافتْ أن يَشْهدْنَ عليها ؛ فأقرَّت ، وقالت : { الآن حَصْحَصَ الحق } أي : ظهر ، وتبيَّن : { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } ، في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] .

هذه شهادةٌ جازمةٌ من تلك المرأة أنَّ يوسفَ صلوات الله وسلامه عليه راعى جانب العزيز حيثُ قال : { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ؛ ولم يذكر تلك المرأة ألبتة ؛ فعرفت المرأةُ أنَّهُ ترك ذكرها ؛ رعايةً ، وتعظيماً لجانبها ، وإخفاءً للأمر عليها ؛ فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن ، فلا جرم كشفت الغطاء ، واعترفت بأنَّ الذنب كُلَّه من جانبها ، وأنَّ يوسف كان مُبَرّأ عن الكل .

حُكِيَ أنَّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي ، فادَّعت عليه المهر ، فأمر القَاضِي أن يَكْشفَ عَنْ وَجْهِها ؛ حتَّى يتمَكَّنَ الشُّهودُ من إقَامةِ الشَّهادةِ ، فقال الزَّوحُ : لا حَاجةَ إلى ذلِكَ ؛ فإنِّي مقرٌّ بصَداقِهَا في دَعْواهَا ، فقالت المرأةُ : أكْرمْتَنِي إلى هذا الحد ؟ اشْهَدُوا أنِّي أبْرَأتُ ذمَّتهُ من كُلِّ حقِّ لِي عليْهِ .

قوله " الآنَ " منصوب بما بعده ، و " حَصْحَصَ " معناه : تبيَّن وظهر بعد خفاءٍ ، قاله الخليل رحمه الله .

وقال بعضهم : هو مأخوذٌ من الحصَّة ، والمعنى : بانتْ حصَّةُ الحق من حصَّة الباطل ، كما تتميَّزُ حِصَصُ الأرَاضِي وغيرها ، وقيل : بمعنى ثبت واستقرَّ .

وقال الرَّاغب : " حَصْحَصَ الحقُّ " ، أي : وضَحَ ذلِكَ بانكِشافِ ما يُقهِره ، وحصَّ وحَصْحَصَِ ، نحو : كفَّ وكَفْكَفَ ، وكَبَّ وكَبْكَبَ ، وحصَّه : قطعهُ ؛ إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكمِ ؛ فمن الأولِ قوله الشاعر : [ السريع ] .

3116 قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومنه : رجلٌ أحَصّ : انقطع بعض شعره ، وامرأةٌ حصَّاءُ ، والحَصَّةُ : القطعة من الجملة ، ويستعمل استعمال النصيب .

وقيل : هو مِنْ حَصْحَصَ البعير ، إذا ألقى ثفناته ؛ للإناخَةِ ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

3117 فَحَصْحَصَ في صُمِّ القَنَا ثَفِنَاتِهِ *** ونَاءَ بِسلمَى نَوْءَة ثُمَّ صَمَّمَا