قوله تعالى : { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله } الآية .
الموْثِق : مصدر بمعنى الثقةِ ، ومعناه : العَهْدُ الذي يُوثق به ، فهو مصدرٌ بمعنى المفعول ، يقول : لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً يوثقُ به
وقوله " مِنْ اللهِ " أي عهداً موثوقاً به ؛ بسبب تأكد الشهادة من الله ، أو بسببِ القسمِ بالله عليه .
والمَوْثِقُ : العهدُ المؤكَّد بالقسم ، وقيل : المؤكَّد بإشهادِ الله على نفسه .
قوله : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } هذا جوابٌ للقسم المضمر في قوله " مَوْثِقاً " ؛ لأنَّ معناه حتى تحلفوا لي لتأتنني به .
قوله { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } في هذا الاستثناء أوجه :
أحدها : أنه منقطع ، قاله أبو البقاء . يعني فيكون تقدير الكلام : لكن إذا أحيط بكم خرجتم من عتبي وغضبي عليكم إن لم تَأتُوني به ؛ لوضوحِ عُذْركُم .
والثاني : أنه متصلٌ ، وهو استثناء من المفعول له العام . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناءِ ، ففيه إشكالٌ . ؟ قلتُ : " أنْ يُحاطَ بِكُمْ " معفولٌ له ، والكلام المثبت ، الذي هو قوله " لتَأتُنَّنِي بهِ " في معنى النَّفي ، معناه : لا تَمْتنِعُون من الإتيان به ؛ إلا للإحاطة بكم ، أو لا تمتنعون منه إلا لعلةٍ واحدة وهي { أَن يُحَاطَ بِكُمْ } فهو استثناءُ من أعمِّ العامِّ في المفعول له ، والاستثناءُ من أعم العام لا يكونُ إلا في النفي وحده ؛ فلا بُدَّ من تأويله بالنَّفي ، ونظيره في الإثبات المتأول بالنفي بمعنى النفي قولهم : أقْسَمْتُ باللهِ لما فعَلتَ وإلاَّ فعلتَ بزَيْدٍ يريد ما أطلب منك إلاًَّ الفعل " . ولوضوح هذا الوجه لم يذكره غيرهُ .
الثالث : أنه مستثنى من أعمَّ العام من الأحوال قال أبو البقاء : تقديره لتَأتُنَّنِي به على كلِّ حالٍ ، إلا في حالٍ ، إلا في حالِ الإحاطةِ بكم .
قال شهابُ الدِّين : " قد نصُّوا على أنَّ أنْ الناصبة للفعلِ ، لا تقعُ موقع الحال وإن كانت مُؤولةً بمصدرٍ ، يجوز أن تقع موقع الحالِ ؛ لأنهم لم يَغتَفِرُوا في المؤولِ ما يَغْتفرونه في الصَّريح ، فيجيزون : جِئْتُك رَكْضاً ، ولا يجيزون : جِئْتُكَ أن أرْكُض وإنْ كانا في تأويله " .
الرابع : أنُّه مسثنى من أعمَّ العامِّ في الأزمان ، والتقدير : لتَأتُنَّنِي به في كل وقتٍ إلا في وقت الإحاطة بكم ، وقد تقدم [ البقرة : 258 ] الخلافُ في هذه المسألة ، وأنَّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح ، فكما تقول : " آتيك صِيَاحَ الدِّيك " يجوز أن تقول : آتيك أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ، جعل من ذلك قول تأبَّط شرًّا : [ الطويل ]
3119 وقَالُوا لهَا : لا تَنْكِحِيهِ فإنَّهُ *** لأوَّلِ نَصْلٍ أنْ يُلاقِيَ مَجْمَعَا
وقول أبِي ذُؤيبٍ الهُذليِّ : [ الطويل ]
3120 وتَاللهِ مَا إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واحدٍ *** بأوْجَدَ مِنِّي أنْ يُهانَ صَغِيرُهَا
قال : تقديره : وقت ملاقاته الجمع ، ووقت إهانة صغيرها .
قال أبو حيَّان : " فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية ، ويبقى { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } على ظاهره من الإثبات " .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : " الظَّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي " .
ومنع ابن الأنباري ذلك في " إنْ " وفي " مَا " أيضاً ، قال : " فيجوزُ أن تقول : خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك ، ولا يجوز : خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ ، أوْ مَا يَصِيح الديك . فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل ، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير ، و " أنْ " وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف ، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال ، بخلاف الظَّرف ، فإنه لا يشترط تنكيره ، فلا يمتنع وقوعُ " أنْ " وما في حيزها موقعه " .
قال الواحديُّ : للمفسرين في الإحاطةِ قولان :
الأول : معناه الهلاكُ . قال مجاهد : إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذراً عندي ، والعرب تقول : أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه .
قال الزمخشري : قال تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] أي أصابه ما أهلكه ، وقال تعالى : { وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } [ يونس : 22 ] ، وأصله ؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ ، ودنا هلاكه ؛ فقد أحيط به
والثاني : قال قتادة : ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين ، لا تقدرون على الرجوع .
{ فلما ءاتوه موثقهم } ، أي : أعطوه عهدهم . قال يعقوب صلوات الله وسلامه عليه { الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شهيدٌ بمعنى شاهدٍ .
وقيل : حافظاً ، أي : أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به ، جازاكم خير الجزاءِ ، وإن غدرتم به ، كافأكم بأعظم العقوبات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.