اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ} (31)

لما هدد الكفار ، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا ، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال .

وفي " يُقِيمُوا " أوجه :

أحدها : أنه مجزومٌ بلام محذوفة ، تقديره : ليقيموا ، فحذفت وبقي عملها ، كما يحذف الجار ويبقى عمله ، كقوله : [ الوافر ]

مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ *** إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا{[19283]}

يريد : لتفدِ .

وأنشده سيبويه{[19284]} إلا أنَّه خصه بالشعرِ .

قال الزمخشري{[19285]} : " ويجوز أن يكون : " يُقِيمُوا " ، و " يُنْفِقُوا " بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، وليكون هذا هو المقولُ ، قالوا : وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم ؛ لأنَّ الأمر الذي هو " قُلْ " عوض منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز " .

ونحا ابنُ مالكٍ رحمه الله إلى قريب من هذا ، فإنَّه جعل حذف هذه اللاَّم على أضربٍ : قليل ، وكثير ومتوسط . فالكثير : أن يكون قبله قول بصيغة الأمر ، كالآية الكريمة .

والقليل : ألا يتقدم قول ؛ كقوله : [ الوافر ]

مُحَمَّدُ تَفْدِ . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19286]}

والمتوسطُ : أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر ، كقوله : [ الرجز ]

قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا *** تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا{[19287]}

الثاني : أن " يُقِيمُوا " مجزوم على جواب : " قُلْ " ، وإليه نحا الأخفش والمبرد .

وقد رد النَّاس عليهما هذا ؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم : أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر .

وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المراد بالبعادِ المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا ؛ امتثلوا .

الثالث : أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ ، تقديره : قل لعبادي أقيموا وأنفقوا ، أي : يقيموا وينفقوا ، قاله أبو البقاء -رحمه الله- وعزاه للمبرّد ، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده ، وهو فاسدٌ من وجهين :

أحدهما : أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل ، وإما في الفاعل ، أو فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل ، فهو خطأ ، كقولك : قُمْ يَقُمْ ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه : أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا .

والوجه الثاني : أنَّ الأمر المقدر للمواجهة ، و " يُقِيمُوا " على لفظ الغيبة ، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً .

قال شهاب الدين{[19288]} : " أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب ، وأمَّا الثاني ، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول : قل لعبدي أطعني يطعك ، وإن كان للغيبة بعد الموجهة باعتبار حكاية الحال " .

الرابع : أن التقدير : أن يقول لهم : أقيموا يقيموا ، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية ، وهذا هو القول الثاني .

الخامس : قال ابن عطية : " يحتمل أن يكون " يُقِيمُوا " جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله " قُلْ " وذلك أن تجعل " قُلْ " في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة " .

السادس : قال الفراء{[19289]} : الأمر معه شرط مقدر ، تقولُ : أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا ، وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط ، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ .

السابع : قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر ، ومعناه : أقيموا .

وهذا مردودٌ ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه .

وأجيب عن هذا : بأنه بني لوقوعه موقع المبني ، كما بني المنادى في نحو : يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير .

ولو قيل : بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا " {[19290]} .

وفي معمول " قُلْ " ثلاثة أوجه :

الأول : الأمر المقدر ، أي : قل لهم أقيما يقيموا .

الثاني : أنه نفس " يُقِيمُوا " على ما قاله ابن عطية .

الثالث : أنَّه الجملة من قوله : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } إلى آخره ، قاله ابن عطية .

وفيه تفكيك النَّظم ، وجعل الجملة : { يُقِيمُواْ الصلاة } إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده ، أو يكون جواباً فصل به بين القولين ، ومعموله ، لكنه لا يترتب على قوله ذلك : إقامة الصلاة ، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا .

وقرأ حمزة والكسائي : " لِعبَادِيْ " بسكون الياء ، والباقون{[19291]} بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين .

قوله : { سِرّاً وَعَلانِيَةً } في نصبهما ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّهما حالان مما تقدم ، وفيهما الثلاث التأويلات في : زيْدٌ عدْلٌ ، أي : ذَوِي سرٍّ ، وعلانيةٍ ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة .

الثاني : أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وقتي سر وعلانية .

الثالث : أنهما منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سرِّ ، وإنفاق علانية .

قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق ب : " يُقِيمُوا " و " يُنْفِقُوا " أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم .

وقد تقدَّم خلاف القراء في : " لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ " .

والخِلال المُخالة ، وهي المُصاحبة ، يقال : خاللته خِلالاً ، ومخالَّة ؛ قال طرفة : [ السريع ]

كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ *** لا تَراكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه{[19292]}

وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]

صَرْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى *** وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ{[19293]}

وقال الأخفش{[19294]} : خِلال جمع ل " خلة " ، نحو " بُرمَة وبِرَام " .

فصل

قال مقاتلٌ : يوم لا بيع فيه ، ولا شراء ، ولا مخالفة ، ولا قرابة . وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [ البقرة 254 ] .

فإن قيل : كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] ؟ .

فالجواب : أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع ، ورغبة النفس ، والآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة ، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله -تعالى- ومحبَّتهِ .


[19283]:تقدم.
[19284]:ينظر: الكتاب 1/408.
[19285]:ينظر: الكشاف 2/556.
[19286]:تقدم.
[19287]:البيت لمنظور بن مرثد الأسدي. ينظر: الخزانة 9/13، المغني 1/225، الهمع 2/56، الدرر 2/71، الأشموني 4/4، روح المعاني 13/221، شواهد المغني للبغدادي 4/340، الجني الداني /114، العيني 4/444، العقد الفريد 3/460، الصحاح (حمى) ،الدر المصون 4/269.
[19288]:ينظر: الدر المصون 4/270.
[19289]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/77.
[19290]:تقدم تخريجه.
[19291]:ينظر: الإتحاف 2/169.
[19292]:ينظر: الديوان /15، التهذيب 5/157، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 4/114، اللسان (وضح)، الدر المصون 4/271.
[19293]:ينظر: شرح ديوان الحماسة 3/1321، البحر المحيط 5/415، القرطبي9/366، اللسان (خلل)، إعراب القرآن للنحاس 2/370، الطبري 13/149، الدر المصون 4/376.
[19294]:ينظر: معاني القرآن للأخفش 2/376.