لما هدد الكفار ، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا ، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال .
أحدها : أنه مجزومٌ بلام محذوفة ، تقديره : ليقيموا ، فحذفت وبقي عملها ، كما يحذف الجار ويبقى عمله ، كقوله : [ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ *** إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا{[19283]}
وأنشده سيبويه{[19284]} إلا أنَّه خصه بالشعرِ .
قال الزمخشري{[19285]} : " ويجوز أن يكون : " يُقِيمُوا " ، و " يُنْفِقُوا " بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، وليكون هذا هو المقولُ ، قالوا : وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم ؛ لأنَّ الأمر الذي هو " قُلْ " عوض منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز " .
ونحا ابنُ مالكٍ رحمه الله إلى قريب من هذا ، فإنَّه جعل حذف هذه اللاَّم على أضربٍ : قليل ، وكثير ومتوسط . فالكثير : أن يكون قبله قول بصيغة الأمر ، كالآية الكريمة .
والقليل : ألا يتقدم قول ؛ كقوله : [ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفْدِ . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19286]}
والمتوسطُ : أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر ، كقوله : [ الرجز ]
قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا *** تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا{[19287]}
الثاني : أن " يُقِيمُوا " مجزوم على جواب : " قُلْ " ، وإليه نحا الأخفش والمبرد .
وقد رد النَّاس عليهما هذا ؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم : أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر .
وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المراد بالبعادِ المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا ؛ امتثلوا .
الثالث : أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ ، تقديره : قل لعبادي أقيموا وأنفقوا ، أي : يقيموا وينفقوا ، قاله أبو البقاء -رحمه الله- وعزاه للمبرّد ، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده ، وهو فاسدٌ من وجهين :
أحدهما : أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل ، وإما في الفاعل ، أو فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل ، فهو خطأ ، كقولك : قُمْ يَقُمْ ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه : أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا .
والوجه الثاني : أنَّ الأمر المقدر للمواجهة ، و " يُقِيمُوا " على لفظ الغيبة ، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً .
قال شهاب الدين{[19288]} : " أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب ، وأمَّا الثاني ، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول : قل لعبدي أطعني يطعك ، وإن كان للغيبة بعد الموجهة باعتبار حكاية الحال " .
الرابع : أن التقدير : أن يقول لهم : أقيموا يقيموا ، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية ، وهذا هو القول الثاني .
الخامس : قال ابن عطية : " يحتمل أن يكون " يُقِيمُوا " جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله " قُلْ " وذلك أن تجعل " قُلْ " في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة " .
السادس : قال الفراء{[19289]} : الأمر معه شرط مقدر ، تقولُ : أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا ، وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط ، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ .
السابع : قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر ، ومعناه : أقيموا .
وهذا مردودٌ ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه .
وأجيب عن هذا : بأنه بني لوقوعه موقع المبني ، كما بني المنادى في نحو : يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير .
ولو قيل : بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا " {[19290]} .
وفي معمول " قُلْ " ثلاثة أوجه :
الأول : الأمر المقدر ، أي : قل لهم أقيما يقيموا .
الثاني : أنه نفس " يُقِيمُوا " على ما قاله ابن عطية .
الثالث : أنَّه الجملة من قوله : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } إلى آخره ، قاله ابن عطية .
وفيه تفكيك النَّظم ، وجعل الجملة : { يُقِيمُواْ الصلاة } إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده ، أو يكون جواباً فصل به بين القولين ، ومعموله ، لكنه لا يترتب على قوله ذلك : إقامة الصلاة ، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا .
وقرأ حمزة والكسائي : " لِعبَادِيْ " بسكون الياء ، والباقون{[19291]} بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين .
قوله : { سِرّاً وَعَلانِيَةً } في نصبهما ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهما حالان مما تقدم ، وفيهما الثلاث التأويلات في : زيْدٌ عدْلٌ ، أي : ذَوِي سرٍّ ، وعلانيةٍ ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة .
الثاني : أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وقتي سر وعلانية .
الثالث : أنهما منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سرِّ ، وإنفاق علانية .
قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق ب : " يُقِيمُوا " و " يُنْفِقُوا " أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم .
وقد تقدَّم خلاف القراء في : " لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ " .
والخِلال المُخالة ، وهي المُصاحبة ، يقال : خاللته خِلالاً ، ومخالَّة ؛ قال طرفة : [ السريع ]
كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ *** لا تَراكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه{[19292]}
صَرْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى *** وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ{[19293]}
وقال الأخفش{[19294]} : خِلال جمع ل " خلة " ، نحو " بُرمَة وبِرَام " .
قال مقاتلٌ : يوم لا بيع فيه ، ولا شراء ، ولا مخالفة ، ولا قرابة . وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [ البقرة 254 ] .
فإن قيل : كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] ؟ .
فالجواب : أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع ، ورغبة النفس ، والآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة ، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله -تعالى- ومحبَّتهِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.