قوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعُونَ } : " أولئك " مبتدأ ، وفي خبره وجهان :
أظهرهما : أنّه الجملة من " يَبْتَغُونَ " ويكون الموصولُ نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً ، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله ، والمراد بالواو العبَّاد لهم ، ويكون العائدُ على " الَّذينَ " محذوفاً ، والمعنى : أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون ، لكشف ضرِّهم - أو يدعونهم آلهة ، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يبتغون .
ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك ، أي : أولئك الأنبياء الذين يدعون ربَّهم أو النَّاس إلى الهدى يبتغون ، فمفعول " يَدْعُونَ " محذوف .
والثاني : أن الخبر نفسُ الموصول ، و " يَبْتَغُون " على هذا حالٌ من فاعل " يَدْعُون " أو بدلٌ منه . وقرأ{[20493]} العامة " يَدعُونَ " بالغيب ، وقد تقدَّم الخلاف في الواو ؛ هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم ، وزيد بن عليٍّ بالغيبة أيضاً ، إلا أنه بناه للمفعول ، وقتادة ، وابن مسعود بتاء الخطاب ، وهاتان القراءتان تقوِّيان أنَّ الواو للمشركين ، لا للأنبياء في قراءة العامة .
إذا أعدنا " يَدْعُونَ " للعابدين ، و " يَبْتَغُونَ " للمعبودين ، فالمعنى : أولئك المعبودون يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة ؛ لأنَّ الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ، ودفع المضارِّ ، يرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، وإذا كانوا كذلك ، كانوا عاجزين محتاجين ، والله - تعالى أغنى الأغنياء ، فكان الاشتغال [ بعبادته ]{[20494]} أولى .
فإن قيل : لا نسلِّم أنَّ الملائكة محتاجون إلى رحمة الله تعالى ، وخائفون من عذابه .
فالجواب : أنَّ الملائكة : إمَّا أن يقال : إنَّها واجبة الوجود لذواتها ، أو يقال : إنَّها ممكنة الوجود لذواتها ، والأول باطلٌ ؛ لأن جميع الكفَّار كانوا معترفين بأن الملائكة عبادُ الله ، ومحتاجون إليه .
وأما الثاني : فهو يوجب القول بأنَّ الملائكة محتاجون في ذواتها ، وفي كمالاتها إلى الله تعالى ، فكان الاشتغالُ بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادةِ الملائكة .
وإن أعدنا " يَدْعُونَ " إلى الأنبياء - عليهم السلام - المذكورين في قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } فالمعنى هو أنَّ الذي عظمت منزلتهم - وهم الأنبياء - لا يعبدون إلا الله تعالى ، ولا يبتغون الوسيلة إلاَّ إليه ، فأنتم بالاقتداءِ بهم أحق ، فلا تعبدوا غير الله - عزَّ وجلَّ - والمراد بالوسيلةِ : الدَّرجة العليا .
وقيل : كل ما يتقرَّب إلى الله تعالى .
واحتجُّوا على صحَّة هذا القول بأنَّ الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فلا يخافون عذابه ، فثبت أنَّ هذا غير لائقٍ بالملائكةِ ، وإنما هو لائقٌ بالأنبياء - صلوات الله عليهم- .
وأجيب بأنَّ الملائكة يخافون من عذاب الله ، لو أقدموا على الذنب ، قال تعالى : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] وقال تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 50 ] ثم قال عزَّ وجلَّ : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } أي من حقِّه أن يحذر ، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله ، فإنَّه لا يخرج عن كونه يجب الحذر عنه .
قوله تعالى : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في " أيُّ " هذه وجهان :
والثاني : أنها موصولة بمعنى " الَّذي " وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير ، فقال الزمخشريُّ : " وأيُّهم بدلٌ من واو " يَبْتَغُونَ " و " أيُّ " موصولة ، أي : يبتغي من هو أقربُ منهم وأزلفُ ، أو ضمِّن " يَبْتغُونَ الوسيلة " معنى يحرصون ، فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب " . فجعلها في الوجه الأول موصولة ، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر ، حذف المبتدأ ، وهو عائدها ، و " أقْرَبُ " خبرٌ . واحتملت " أيُّ " حينئذٍ أن تكون مبنية ، وهو الأكثر فيها ، وأن تكون معربة ، وسيأتي موضعه في مريم : [ 69 ] إن شاء الله تعالى وفي الثاني جعلها استفهامية ؛ بدليل أنه ضمَّن الابتغاء معنى شيء تعلق ، وهو يحرصون ، فيكون " أيُّهُمْ " مبتدأ و " أقربُ " خبره ، والجملة في محلِّ نصب على إسقاط الخافض ؛ لأنَّ " تحْرِصُ " يتعدَّى ب " على " قال تعالى : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } [ النحل : 37 ] ، { أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] .
وقال أبو البقاء{[20495]} : " أيُّهُمْ " مبتدأ ، و " أقْرَبُ " خبره ، وهو استفهامُ في موضع نصبٍ ب " يَدْعُونَ " ، ويجوز أن يكون " أيُّهُمْ " بمعنى الذي ، وهو بدلٌ من الضمير في " يَدعُونَ " .
قال أبو حيان : " علَّق " يَدْعُونَ " وهو ليس فعلاً قلبيًّا ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحاليَّة ، ولا يضرُّ ذلك ، لأنَّها معمولة للصِّلة " . قال شهاب الدين : أمَّا كون " يَدْعُونَ " لا يعلق ، هو مذهب الجمهور ، وقال يونس : يجوز تعليق الأفعال مطلقاً ، القلبية وغيرها ، وأمَّا قوله " فصل بالجملة الحالية " يعني بها " يَبْتَغُونَ " فصل بها بين " يَدْعُونَ " الذي هو صلة " الَّذينَ " وبين معموله ، وهو " أيُّهم أقْرَبُ " لأنه معلَّقٌ عنه ، كما عرفته ، إلا أنَّ الشيخ لم يتقدَّم في كلامه إعرابُ " يَبْتغُونَ " حالاً ، بل لم يعربها إلاَّ خبراً للموصول ، وهذا قريبٌ .
وجعل أبو البقاء أيًّا الموصولة بدلاً من واو " يَدْعُونَ " ، ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك ، بل كلُّهم يجعلونها من واو " يَبْتَغُونَ " وهو الظاهر .
وقال الحوفي- رحمه الله- : " أيُّهم أقربُ " ابتداء وخبر ، والمعنى : ينظرون أيُّهم أقرب ، فيتوسَّلون به ، ويجوز أن يكون " أيهم أقرب " بدلاً من واو " يَبْتَغُون " .
قال شهاب الدين : فقد أضمر فعلاً معلقاً ، وهو ينظرون فإن كان من نظر البصرِ ، تعدَّى ب " إلى " وإن كان من نظر الفكر ، تعدَّى ب " في " فعلى التقديرين : الجملة الاستفهامية في موضع نصبٍ بإسقاطِ الخافض ، وهذا إضمارُ ما لا حاجة إليه .
وقال ابن عطية : " وأيُّهُمْ ابتداء ، و " أقْرَبُ " خبره ، والتقدير : نظرهم ووكدهم أيهم أقرب ، ومنه قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : " فبات النَّاس يدُوكُونَ أيُّهمْ يُعطَاهَا " ، أي : يتبارون في القرب " . قال أبو حيان : " فَجَعلَ المحذوف " نظرُهمْ ووكْدهُمْ " وهذا مبتدأ ، فإن جعلت " أيُّهمْ أقربُ " في موضع نصب ب " نَظرُهُمْ " بقي المبتدأ بلا خبر ، فيحتاج إلى إضمار خبر ، وإن جعلت " أيُّهم أقربُ " الخبر ، لم يصحَّ ؛ لأنَّ نظرهم ليس هو " أيُّهم أقربُ " وإن جعلت التقدير : " نَظرهُمْ في أيهم أقربُ " أي : كائنٌ أو حاصلٌ ، لم يصحَّ ذلك ؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يعلَّق " .
فقد تحصَّل في الآية الكريمة ستَّة أوجه :
أربعة حال جعل " أيّ " استفهاماً :
الأول : أنها معلِّقة للوسيلة ، كما قرَّره الزمخشريُّ .
الثاني : أنها معلّقة ل " يَدعُونَ " كما قاله أبو البقاء .
الثالث : أنها معلقة ل " يَنْظُرونَ " مقدراً ، كما قاله الحوفيُّ .
الرابع : أنها معلقة ل " نَظرُهمْ " كما قدَّره ابن عطيَّة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.