اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا} (57)

قوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعُونَ } : " أولئك " مبتدأ ، وفي خبره وجهان :

أظهرهما : أنّه الجملة من " يَبْتَغُونَ " ويكون الموصولُ نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً ، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله ، والمراد بالواو العبَّاد لهم ، ويكون العائدُ على " الَّذينَ " محذوفاً ، والمعنى : أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون ، لكشف ضرِّهم - أو يدعونهم آلهة ، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يبتغون .

ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك ، أي : أولئك الأنبياء الذين يدعون ربَّهم أو النَّاس إلى الهدى يبتغون ، فمفعول " يَدْعُونَ " محذوف .

والثاني : أن الخبر نفسُ الموصول ، و " يَبْتَغُون " على هذا حالٌ من فاعل " يَدْعُون " أو بدلٌ منه . وقرأ{[20493]} العامة " يَدعُونَ " بالغيب ، وقد تقدَّم الخلاف في الواو ؛ هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم ، وزيد بن عليٍّ بالغيبة أيضاً ، إلا أنه بناه للمفعول ، وقتادة ، وابن مسعود بتاء الخطاب ، وهاتان القراءتان تقوِّيان أنَّ الواو للمشركين ، لا للأنبياء في قراءة العامة .

فصل

إذا أعدنا " يَدْعُونَ " للعابدين ، و " يَبْتَغُونَ " للمعبودين ، فالمعنى : أولئك المعبودون يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة ؛ لأنَّ الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ، ودفع المضارِّ ، يرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، وإذا كانوا كذلك ، كانوا عاجزين محتاجين ، والله - تعالى أغنى الأغنياء ، فكان الاشتغال [ بعبادته ]{[20494]} أولى .

فإن قيل : لا نسلِّم أنَّ الملائكة محتاجون إلى رحمة الله تعالى ، وخائفون من عذابه .

فالجواب : أنَّ الملائكة : إمَّا أن يقال : إنَّها واجبة الوجود لذواتها ، أو يقال : إنَّها ممكنة الوجود لذواتها ، والأول باطلٌ ؛ لأن جميع الكفَّار كانوا معترفين بأن الملائكة عبادُ الله ، ومحتاجون إليه .

وأما الثاني : فهو يوجب القول بأنَّ الملائكة محتاجون في ذواتها ، وفي كمالاتها إلى الله تعالى ، فكان الاشتغالُ بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادةِ الملائكة .

وإن أعدنا " يَدْعُونَ " إلى الأنبياء - عليهم السلام - المذكورين في قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } فالمعنى هو أنَّ الذي عظمت منزلتهم - وهم الأنبياء - لا يعبدون إلا الله تعالى ، ولا يبتغون الوسيلة إلاَّ إليه ، فأنتم بالاقتداءِ بهم أحق ، فلا تعبدوا غير الله - عزَّ وجلَّ - والمراد بالوسيلةِ : الدَّرجة العليا .

وقيل : كل ما يتقرَّب إلى الله تعالى .

واحتجُّوا على صحَّة هذا القول بأنَّ الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فلا يخافون عذابه ، فثبت أنَّ هذا غير لائقٍ بالملائكةِ ، وإنما هو لائقٌ بالأنبياء - صلوات الله عليهم- .

وأجيب بأنَّ الملائكة يخافون من عذاب الله ، لو أقدموا على الذنب ، قال تعالى : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] وقال تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 50 ] ثم قال عزَّ وجلَّ : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } أي من حقِّه أن يحذر ، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله ، فإنَّه لا يخرج عن كونه يجب الحذر عنه .

قوله تعالى : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في " أيُّ " هذه وجهان :

أحدهما : أنها استفهامية .

والثاني : أنها موصولة بمعنى " الَّذي " وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير ، فقال الزمخشريُّ : " وأيُّهم بدلٌ من واو " يَبْتَغُونَ " و " أيُّ " موصولة ، أي : يبتغي من هو أقربُ منهم وأزلفُ ، أو ضمِّن " يَبْتغُونَ الوسيلة " معنى يحرصون ، فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب " . فجعلها في الوجه الأول موصولة ، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر ، حذف المبتدأ ، وهو عائدها ، و " أقْرَبُ " خبرٌ . واحتملت " أيُّ " حينئذٍ أن تكون مبنية ، وهو الأكثر فيها ، وأن تكون معربة ، وسيأتي موضعه في مريم : [ 69 ] إن شاء الله تعالى وفي الثاني جعلها استفهامية ؛ بدليل أنه ضمَّن الابتغاء معنى شيء تعلق ، وهو يحرصون ، فيكون " أيُّهُمْ " مبتدأ و " أقربُ " خبره ، والجملة في محلِّ نصب على إسقاط الخافض ؛ لأنَّ " تحْرِصُ " يتعدَّى ب " على " قال تعالى : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } [ النحل : 37 ] ، { أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] .

وقال أبو البقاء{[20495]} : " أيُّهُمْ " مبتدأ ، و " أقْرَبُ " خبره ، وهو استفهامُ في موضع نصبٍ ب " يَدْعُونَ " ، ويجوز أن يكون " أيُّهُمْ " بمعنى الذي ، وهو بدلٌ من الضمير في " يَدعُونَ " .

قال أبو حيان : " علَّق " يَدْعُونَ " وهو ليس فعلاً قلبيًّا ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحاليَّة ، ولا يضرُّ ذلك ، لأنَّها معمولة للصِّلة " . قال شهاب الدين : أمَّا كون " يَدْعُونَ " لا يعلق ، هو مذهب الجمهور ، وقال يونس : يجوز تعليق الأفعال مطلقاً ، القلبية وغيرها ، وأمَّا قوله " فصل بالجملة الحالية " يعني بها " يَبْتَغُونَ " فصل بها بين " يَدْعُونَ " الذي هو صلة " الَّذينَ " وبين معموله ، وهو " أيُّهم أقْرَبُ " لأنه معلَّقٌ عنه ، كما عرفته ، إلا أنَّ الشيخ لم يتقدَّم في كلامه إعرابُ " يَبْتغُونَ " حالاً ، بل لم يعربها إلاَّ خبراً للموصول ، وهذا قريبٌ .

وجعل أبو البقاء أيًّا الموصولة بدلاً من واو " يَدْعُونَ " ، ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك ، بل كلُّهم يجعلونها من واو " يَبْتَغُونَ " وهو الظاهر .

وقال الحوفي- رحمه الله- : " أيُّهم أقربُ " ابتداء وخبر ، والمعنى : ينظرون أيُّهم أقرب ، فيتوسَّلون به ، ويجوز أن يكون " أيهم أقرب " بدلاً من واو " يَبْتَغُون " .

قال شهاب الدين : فقد أضمر فعلاً معلقاً ، وهو ينظرون فإن كان من نظر البصرِ ، تعدَّى ب " إلى " وإن كان من نظر الفكر ، تعدَّى ب " في " فعلى التقديرين : الجملة الاستفهامية في موضع نصبٍ بإسقاطِ الخافض ، وهذا إضمارُ ما لا حاجة إليه .

وقال ابن عطية : " وأيُّهُمْ ابتداء ، و " أقْرَبُ " خبره ، والتقدير : نظرهم ووكدهم أيهم أقرب ، ومنه قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : " فبات النَّاس يدُوكُونَ أيُّهمْ يُعطَاهَا " ، أي : يتبارون في القرب " . قال أبو حيان : " فَجَعلَ المحذوف " نظرُهمْ ووكْدهُمْ " وهذا مبتدأ ، فإن جعلت " أيُّهمْ أقربُ " في موضع نصب ب " نَظرُهُمْ " بقي المبتدأ بلا خبر ، فيحتاج إلى إضمار خبر ، وإن جعلت " أيُّهم أقربُ " الخبر ، لم يصحَّ ؛ لأنَّ نظرهم ليس هو " أيُّهم أقربُ " وإن جعلت التقدير : " نَظرهُمْ في أيهم أقربُ " أي : كائنٌ أو حاصلٌ ، لم يصحَّ ذلك ؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يعلَّق " .

فقد تحصَّل في الآية الكريمة ستَّة أوجه :

أربعة حال جعل " أيّ " استفهاماً :

الأول : أنها معلِّقة للوسيلة ، كما قرَّره الزمخشريُّ .

الثاني : أنها معلّقة ل " يَدعُونَ " كما قاله أبو البقاء .

الثالث : أنها معلقة ل " يَنْظُرونَ " مقدراً ، كما قاله الحوفيُّ .

الرابع : أنها معلقة ل " نَظرُهمْ " كما قدَّره ابن عطيَّة .

واثنان حال جعلها موصولة :

الأول : البدل من واو " يَدعُونَ " كما قاله أبو البقاء .

الثاني : أنها بدلٌ من واو " يَبْتغُونَ " كما قاله الجمهور .


[20493]:ينظر في قراءتها: الشواذ 277، والقرطبي 10/181، والبحر 6/50، والدر المصون 4/400.
[20494]:في ب: بعبادة الله.
[20495]:ينظر: الإملاء 2/93.