اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوۡ خَلۡقٗا مِّمَّا يَكۡبُرُ فِي صُدُورِكُمۡۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَاۖ قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖۚ فَسَيُنۡغِضُونَ إِلَيۡكَ رُءُوسَهُمۡ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبٗا} (51)

ثم قال تعالى : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } أي : لو فرضتم شيئاً آخر أبعد من قبولِ الحجر والحديد للحياة ، بحيث يستبعد عقلكم قبوله للحياة ، ولا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء ؛ لأنَّ المراد أنَّ أبدان النَّاس ، وإن انتهت بعد موتها إلى أيِّ صفة فرضت ، وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة ، فإنَّ الله قادرٌ على إعادة الحياة إليها .

قال ابن عبَّاس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأكثر المفسِّرين - رضي الله عنهم - : إنَّه الموت ؛ فإنَّه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت ، أي : لو كنتم الموت بعينه ، لأميتنَّكم ، ولأبعثنكم ، وهذا إنَّما يحسنُ ذكره على سبيل المبالغة ، أما نفس الأمر بهذا ، فهو محالٌ ؛ لأن أبدان النَّاس أجسامٌ ، والموت عرضٌ ، والجسم لا ينقلب عرضا ، وبتقدير أن ينقلب عرضاً ، فالموت لا يقبل الحياة ؛ لأن أحد الضِّدين يمتنع اتصافه بالضدِّ الآخر .

وقال بعضهم : يعني السَّماء والأرض .

ثم قال تعالى : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } ، أي : من الذي يقدر على إعادة الحياة ، فقال تعالى : { قُلْ } يا محمد : { الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : خلقكم أوَّل مرة ، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة .

قوله تعالى : { الذي فَطَرَكُمْ } : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : الذي فطركم يعيدكم ، وهذا التقدير فيه مطابقة بين السؤال والجواب .

والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : معيدكم الذي فطركم .

الثالث : أنه فاعل بفعل مقدَّر ، أي : يعيدكم الذي فطركم ، ولهذا صرِّح بالفعل في نظيره عند قوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] .

و " أوَّل مرَّةٍ " ظرف زمانٍ ناصبه " فَطرَكُمْ " .

قوله تعالى : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } ، أي : يحرِّكونها استهزاء ، يقال : أنغض رأسه ينغضها ، أي : يحركها إلى فوق ، وإلى أسفل إنغاضاً ، فهو منغضٌ ، قال : [ الرجز ]

أنْغضَ نَحْوي رَأسهُ وأقْنَعا *** كَأنَّهُ يَطلبُ شيئاً أطْمعَا{[20467]}

وقال آخر : [ الرجز ]

لمَّا رَأتْنِي أنغضَتْ لِي الرَّأسَا{[20468]} *** وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم : " إذا أخبر الرجلُ بشيءٍ ، فحرَّك رأسه ؛ إنكاراً له ، فقد أنغضَ " .

قال ذو الرُّمَّة :

ظَعائِنُ لمْ يَسْكُنَّ أكْنافَ قَرْيةٍ *** بِسيفٍ ولَمْ تَنْغُضْ بهنَّ القَناطِرُ{[20469]}

أي : لم تحرَّك ، وأمَّا نغض ثلاثيًّا ، ينغَض وينغُض بالفتح والضمِّ ، فبمعنى تحرَّك ، لا يتعدَّى يقال : نغضتْ سنُّه ، أي : تحرَّكتْ ، تَنغِضُ نغضاً ، ونغوضاً . قال : [ الرجز ]

ونَغَضتْ مِنْ هَرمٍ أسْنانُهَا{[20470]} *** ثم قال تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هُوَ } ، أي : البعث والقيامة ، وهذا سؤالٌ فاسدٌ ؛ لأنَّهم منعوا الحشر والنشر كما تقدَّم ؛ ثمَّ بين تعالى بالبرهان القاطع كونه ممكناً في نفسه ، فقولهم " مَتَى هُوَ " كلام لا يتعلق بالبعث ؛ فإنَّه لما ثبت بالدليل العقليِّ كونه ممكن الوجود في نفسه ، وجب الاعتراف بإمكانه ، فإنه متى يوجد ، فذاك لا يمكن إثباته بالعقل ، بل إنما يمكن إثباته بالدَّليل السمعي ، فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعيَّن ، عرف ، وإلا فلا سبيل إلى معرفته .

وقد بين الله تبارك وتعالى في القرآن ؛ أنَّه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعيَّن ، فقال جلَّ ذكره : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] وقال : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } [ الأعراف : 187 ] وقال تعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] فلا جرم قال تعالى : { عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } .

قال المفسِّرون : " عَسَى " من الله واجبٌ ، معناه : أنه قريبٌ ، فإن قيل : كيف يكون قريباً ، وقد انقرض سبعمائة سنة ، ولم يظهر .

فالجواب : قال ابن الخطيب{[20471]} : إن كان معنى : " أكثر ممَّا بَقِيَ " كان الباقي قليلاً ، ويحتمل أن يريد بالقرب أن إتيان السَّاعة متناهٍ ، وكل ما كان متناهياً من الزَّمان فهو قليلٌ ، بل أقلُّ من القليل بالنسبة إلى الزَّمان الذي بعده ؛ لأنَّه غير متناهٍ ؛ كنسبة العدد المتناهي إلى العدد المطلقِ ؛ فإنَّه لا ينسب إليه بجزءٍ من الأجزاء ، ولو قلَّ .

ويقال في المثل " كل آت قريب " .

قوله تعالى : { عسى أَن يَكُونَ } يجوز أن تكون الناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على البعث والحشر المدلول عليهما بقوَّة الكلام ، أو لتضمُّنه في قوله " مَبُْعُوثُونَ " و " أنْ يَكُونَ " خبرها ، ويجوز أن تكون التامة مسندة إلى " أنْ " وما في حيزها ، واسم " يكون " ضمير البعث ؛ كما تقدَّم .

وفي " قريباً " وجهان :

أحدهما : أنه خبر " كَانَ " وهو وصفٌ على بابه .

والثاني : أنه ظرف ، أي : زماناً قريباً ، و " أنْ يَكُونَ " على هذا تامة ، أي : عسى أن يقع العود في زمانٍ قريبٍ .


[20467]:ينظر البيت في مجاز القرآن 1/382، البحر المحيط 6/43، القرطبي 10/178، روح المعاني 15/92، الدر المصون 4/398.
[20468]:ينظر البيت في تفسير الطبري 15/70، البحر 6/43، القرطبي 10/178، الدر المصون 4/398.
[20469]:ينظر البيت في ديوانه 331 وفيه "لم يسلكن" بدل "لم يسكن" ، وينظر: البحر المحيط 6/43، ومجاز القرآن 1/383، الدر المصون 4/398.
[20470]:ينظر البيت في تفسير الطبري 15/70، مجاز القرآن 1/382، البحر المحيط 6/43، القرطبي 10/178، الدر المصون 4/398.
[20471]:ينظر: الفخر الرازي 20/181.