اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (174)

قال ابن عبَّاس : نزلَت في رؤوس اليهود : كعبِ بنِ الأَشْرفِ وكعْبِ بن أسدٍ ، ومالك بنِ الصيف ، وحُييِّ بن أخطَبَ ، وأبي ياسرِ بنِ أخطَبَ ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهَدَايا ، وكانُوا يَرجُون أن يكُونَ النبيُّ المَبْعُوثُ منهم ، فلما بُعِثَ محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام من غيرهم خافُوا انقطَاع تلك المنافِع ؛ فكتموا أمر مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأنْ غيَّروا صِفَتَه ، ثم أخرَجُوها إليهم ، فإذا ظَهَرت السفلة على النَّعتِ المغيَّر ، وجدوه مخالفاً لصفتِهِ صلى الله عليه وسلم ، لا يتبعونَه ، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى هذه الآية{[2355]} .

قال القرطبيُّ{[2356]} : ومعنى " أَنْزَلَ " : أظْهَرَ ؛ كما قال تعالى : { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ } [ الأنعام : 93 ] أي : سأُظْهِر وقيل : هو على بابِهِ من النُّزول ، أي : ما أَنْزَل به ملائكتَهُ على رُسُله .

قوله : " مِنَ الْكِتَابِ " : في محلِّ نصْبٍ ، على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أَنَّهُ العائِدُ على الموصول ، تقديره : " أَنْزَلَهُ اللَّهُ " حال كونه " مِنَ الكِتَابِ " فالعاملُ فيه " أَنْزَلَ " .

والثاني : أنه المُوصول نَفسُه ، فالعامل في الحال " يَكْتُمُونَ " .

قوله : " وَيَشْترونَ بِهِ " : الضميرُ في " بِهِ " يُحْتَمَل أن يعود على " ما " الموصولة ، وأن يعودَ على الكَتْم المفهومِ من قوله : " يَكْتُمُونَ " ، وأَنْ يعودَ على الكتابِ ، والأَوَّلُ أَظهَرُ ، ويكونُ ذلك على حَذْف مضافٍ ، أي : " يَشْتَرونَ بِكَتْم ما أَنْزَلَ " .

قال ابنُ عَبَّاس - رضي الله عنه - وقتادَةُ والسُّدِّيُّ ، والأصَمُّ وأبو مُسْلِمٍ - رضي الله عنهم - كانوا يكتُمُونَ صفَةَ محمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ونَعْتَهُ{[2357]} .

وقال الحسَنُ : كَتَمُوا الأَحْكَام ، وهو قولهُ تبارَكَ وتعالى : { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [ التوبة : 34 ] .

فصل في حقيقة الكتمان

اختلفوا في كيفيَّة الكتمان .

فروي عن ابن عبَّاس أَنَّهُم كانُوا يحرِّفون ظاهِرَ التَّوراةِ ، والإنجيلِ{[2358]} .

قال المتكلِّمون : وهذا ممتنعٌ ؛ لأنَّ التوراة والإنجيل كتابانِ ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدِّ التواتر ؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما ، وإِنَّما كانوا يكتُمُونَ التأويلَ ، لأن‍َّه قَدْ كان منهم مَنْ يعرف الآياتِ الدالَّةَ على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يذكُرُون لها تأويلاتٍ باطلةً ، ويحرِّفونها عن محامِلها الصحيحة ، والدَّالَّةِ على نبوَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو المرادُ من الكتْمَان ، فيصير المعنى : الذين يكْتُمُون معاني ما أنزَلَ الله منَ الكتاب .

{ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } كقوله تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] لأنَّه في نفسه قليلٌ ولأنَّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليلٌ ، ولما ذكر عنهم هذه الحكاية ، ذكر الوعيدَ عليهم ؛ فقال : { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ } .

قال بعضُهُم : ذكْرُ البطْنِ هنا زيادةُ بيانٍ ؛ كقوله : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ }

[ الأنعام : 38 ] وقال بعضهُم : بل فيه فائدةٌ ؛ وقولُه " فِي بطُونِهِمْ " ، يقالُ : أَكَلَ فُلاَنٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ .

فصل في أكلهم النَّار في الدنيا أم في الآخرة

قال الحسن ، والرَّبيع ، وجماعةٌ مِنْ أهلِ العلم إنَّ أكلَهُم في الدنيا وإن كان طيِّباً في الحال ، فعاقبتُه النَّار ؛ لأنَّه أكلُ ما يوجب النار ؛ فكأنه أكْلُ النَّار ؛ كما روي في حديث الشَّارب مِن آنيةِ الذَّهَب والفضَّة : " إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " .

وقوله تبارَكَ وتَعَالى : { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] أي : عِنباً ؛ فهذا كلُّه من تسمية الشيء بما يؤولُ إلَيْه . وقال الأصمُّ إِنَّهم في الآخرةِ يَأكلُون النَّار ؛ لأكلهم في الدنيا الحرامَ{[2359]} .

قوله : { إِلاَّ النَّارَ } استثناءٌ مفرَّغ ؛ لأنَّ قبله عاملاً يطلبه ، وهذا من مجازِ الكَلاَمِ ، جعل ما هُوَ سَبَبٌ للنَّار ناراً ؛ كقولهم : " أَكَلَ فُلاَنٌ الدَّمَ " ، يريدُون الدية الَّتي بِسَبَبها الدَّمُ ؛ قال القائل في ذلك : [ الطويل ]

904 - فَلَوْ أَنَّ حَبّاً يَقْبَلُ المَالَ فِدْيَةً *** لَسُقْنَا إِلَيْهِ المَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَما

وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ *** رِضَا الْعَارَ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا{[2360]}

وقال القائلُ : [ الطويل ]

905 - أَكَلْتُ دَماً إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ *** بِعِيدَةِ مَهْوَى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ{[2361]}

وقال : [ الرجز ]

906 - يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِكَافَا

يريد : ثَمَنَ إكافٍ{[2362]} .

وقوله : " في بُطُونِهِم " يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أَن يتعلَّق بقوله " يَأْكُلُونَ " فهو ظرْفٌ له ، قال أبو البقاء{[2363]} : وفيه حذفُ مضافٍ ، أي " طَرِيقِ بُطُونِهِمْ " ولا حاجة إلى ما قاله من التَّقْدِير .

والثاني : أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ ، على أنَّهُ حالٌ من النَّار .

قال أبُو البقاء{[2364]} : والأجودُ : أن تكونُ الحال هُنَا مقدَّرة ؛ لأنَّها وقت الأَكْلِ ليْسَتْ في بُطُونِهِمْ . وإنَّمَا تَؤول إلى ذلك ، والتقديرُ : ثابتةٌ وكائنةٌ في بُطُونهم .

قال : ويلْزَمُ منْ هذا تقديمُ الحال على حرف الاستثناء .

وهو ضعيفٌ ، إلاَّ أنْ يجعل المفعولَ محذوفاً و " فِي بُطُونِهِمْ " حالاً منه ، أَو صفةً له ، أي : في بطونِهِم شيئاً ، يعني فيكون : " إلاَّ النَّارُ " منصوباً على الاستثناء التَّامِّ ؛ لأنَّهُ مستثنًى من ذلك المحذوف إِلاَّ أَنَّه قال بَعْد ذلك : وهذا الكلامُ من المعنى على المجاز وللإعْرَابِ حكْمُ اللفظ .

والثالث : أنْ يكون صفةً أو حالاً من مفعُول " كُلُوا " محذوفاً ؛ كما تقدم تقديرُه .

قوله : في ذِكْرِ البُطُونِ تنبيهٌ على أَنَّهُم باعوا آخِرَتَهُم بدُنياهم ، وهو حظُّهم من المَطْعَم الَّذي لا خَطَرَ له ومعنى " إلاَّ النَّار " ، أي : أنَّهُ حرامٌ يعذِّبهم الله علَيْه ، فسمّى ما أَكَلُوه من الرُّشَا ناراً ؛ لأَنَّهُ يؤدِّيهم إلى النار ، قاله أكثر المفسِّرين{[2365]} .

وقيل : إِنَّهُ يعاقبهم على كتمانهم بأكل النَّار في جهنم حقيقةً فأَخْبَر عن المآل بالحالِ ؛ كما قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] ، أي عاقبتهم تئُولُ إلى ذلك ، ومنْه قَوْلُ القائل : [ الوافر ]

907 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ *** . . . {[2366]}

وقال القائِل [ المتقارب ]

908 - . . . *** فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ{[2367]}

وقال آخر : [ البسيط ]

909 - . . . *** وَدُورُنَا لِخَرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا{[2368]}

وهذه الآيةُ تدُلُّ على تحريم الرَّشْوَة على الباطل .

قوله : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } ظَاهِرهُ : أَنَّهُ لا يكلِّمهم أصلاً ، لكنه لما أوردَهُ مَوْرِدَ الوعيد ، فهم منه ما يجري مَجْرَى العقوبة وذكَروُا فيه ثلاثة أَوْجِهٍ{[2369]} :

الأوَّل : قد دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه سبحانَهُ وتعالى يكلِّمهم ؛ وذلك قولُهُ

{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] .

وقوله { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] فعرفنا أَنَّهُ يسأل كلُّ واحدٍ من المكلَّفين ، والسؤال لا يكونُ إِلاَّ بكَلاَم ، فقالوا : وجب أنْ يكُون المرادُ من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلِّمهم بتحيَّةٍ وسلام وخَيْرٍ ، وإنما يكلِّمهم بما يعظم عندهم من الحَسْرة والغَمِّ ؛ من المناقشة والمُسَاءلة كقوله تعالى { اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] .

الثاني : أنَّه تبارك وتعالى لا يكلِّمهم أَصْلاً ، وأَمَّا قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى ، وإنَّما كان عدَمُ تكليمهم في مَعْرِضِ التَّهْديد ؛ لأَنَّ [ يومَ القيامة هُو اليَوْمُ الذي يكلِّم الله تعالى فيه كلَّ الخلائق بلا واسطةٍ ، فيظهر ]{[2370]} عند كلامِهِ السُّرُورُ في أوليائه ، وضده في أعدائِهِ ويتميَّز أهلُ الجَنَّة بذلك ، من أهلِ النار . فلا جَرَم كان ذلك من أعظَمِ الوعيد .

الثالث : أن قوله : " وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ " استعارةٌ عن الغَضَب ؛ لأنَّ عادةَ المُلُوك أنَّهُم عند الغَضَب يعرضُون عن المَغْضُوب عليه ، ولا يكلِّمونه ؛ كما أنَّهُم عند الرضَا يُقْبِلُون علَيْه بالوجه والحديث .

وقوله " وَلاَ يُزكِّيهِم " {[2371]} فيه وجوه :

الأوَّل : لا ينسبهم إلى التَّزكية ، ولا يُثْنِي عليهم .

الثاني : لا يقْبَل أعمالَهُمْ ؛ كما يقبل أَعْمَال الأولياء .

الثالث : لا ينزلُهم منازل الأولياء .

وقيل : لا يُصْلِحُ عمالهم الخبيثة ، فيطهرهم .

قولُهُ { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، اعْلَمْ : أنَ الفعيل قد يكون بمعنى المفعول ؛ كالجريح والقتيل ، بمعنى المجروح والمَقْتُول ، وقد يكُونُ بمعنى " المُفعل " ؛ كالبصير بمعنى المُبْصِر والأليم بمعنى المُؤلم .

واعلم أَنَّ العبرةَ بعُمُوم اللَّفْظِ ، لا بخُصُوص السَّبَب ، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود ، لكنَّها عامَّة في حقِّ كلِّ مَنْ كَتَم شيئاً من باب الدِّين .


[2355]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/ 23، البغوي 1/ 141.
[2356]:- ينظر: تفسير القرطبي 2/157.
[2357]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/ 23.
[2358]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/ 23.
[2359]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/ 24.
[2360]:- ينظر: الحماسة 1/125، البحر المحيط 1/667، والدر المصون 1/444.
[2361]:- البيت لعروة الرحال. ينظر الحماسة 2/ 463، الدر المصون: 1/444.
[2362]:- ينظر: البحر المحيط 1/667، الدر المصون 1/444.
[2363]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء1/76.
[2364]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/76.
[2365]:- ينظر: تفسير القرطبي 2/158.
[2366]:- هذا صدر بيت لأبي العتاهية. ينظر ديوانه 33، وللإمام علي بن أبي طالب في خزانة الأدب 9/529-531، والدر 4/167، وأوضح المسالك 3/33، والجنى الداني 98، والدر المصون 3/ 72.
[2367]:- هذا عجزي بيت لنهيل بن الحارث المازني أو لشييم بن خويلد، وصدره: وإن يكن الموت أفناهم. ينظر خزانة الأدب 9/ 530، 533، 534 ولشييم أو لسماك بن عمرو في لسان العرب (لوم) وينظر شرح شواهد المغني 2/ 572، ومغني اللبيب 1/ 214.
[2368]:- البيت لسابق البربري وصدره: أموالنا لذوي الميراث نجمعها. ينظر: اللامات ص 120 ولسان العرب (لوم).
[2369]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/24.
[2370]:- سقط في ب.
[2371]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/24.