اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

لما أمر في الآية المتقدِّمة بأكل الحال ، فصَّل في هذه الآية [ أنواع ]{[2303]} الحرام .

قوله : " إنَّمَا حَرَّمَ " : الجمهور قرءوا " حَرَّمَ " مشدَّداً مبنيّاً للفاعل " المَيْتَة " نصباً على أنَّ " مَا " كافَّةٌ مهيِّئة ل " إنَّ " في الدُّخول على هذه الجملة الفعليَّة ، وفاعل " حَرَّمَ " ضمير الله تعالى ، و " المَيْتَةَ " : مفعولٌ به ، وابن أبي عَبْلَة{[2304]} برفع " المَيْتَةُ " ، وما بعدها ، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون " مَا " موصولةً ، و " حَرَّمَ " صلتها ، والفاعل ضمير الله تعالى والعائد محذوفٌ ؛ لاستكمال الشُّروط ، تقديره : " حَرَّمَهُ " ، والموصول وصلته في محلِّ نصب اسم " إنَّ " ، و " الميتة " : خبرها .

وقرأ أبو جعفر{[2305]} ، وحمزة مبنيّاً للمفعول ، فتحتمل " ما " في هذه القراءة وجهين :

أحدهما : أن تكون " ما " مهيئةً ، و " المَيْتَةُ " مفعول ما لم يسمَّ فاعل .

والثاني : أن تكون موصولةً ، فمفعول " حُرِّمَ " القائم مقام الفاعل ضميرٌ مستكنٌّ يعود على " ما " الموصولة ، و " لميتة " خبر " إنَّ " .

وقرأ{[2306]} أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ{[2307]} ، " حَرُمَ " ، بضمِّ الراء مخفَّفة ، و " المَيْتَةُ " رفعاً و " مَا " تحتمل الوجهين أيضاً ، فتكون مهيِّئة ، و " المَيْتَةُ " ؛ فاعلٌ ب " حَرُمَ " ، أو موصولةً ، والفاعل ضميرٌ يعود على " مَا " وهي اسمُ " إنَّ " ، و " المَيْتَة " : خبرها ، والجمهور على تخفيف " المَيْتَة " في جميع القرآن ، وأبو جعفر بالتَّشديد ، وهو الأصل ، وهذا كما تقدَّم في أنَّ " الميْت " مخفَّفٌ من " المَيِّت " ، وأن أصله " مَيْوِتٌ " ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [ آل عمران : 27 ] .

ونقل عن قدماء النحاة ، أنَّ " المَيْتَ " بالتَّخفيف : من فارقت روحه جسده ، وبالتشديد : من عاين أسباب الموت ، ولم يمت ، [ وحكى ابن عطيَّة{[2308]} - رحمه الله - عن أبي حاتم : أنَّ ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يَمُتْ ]{[2309]} بعد ، لا يقال فيه بالتخفيف ، ثم قال : ولم يقرأ أحدٌ بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزِّيُّ عن ابن كثير :

{ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] ، وأما قوله : [ الوافر ]

900 - إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ *** فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِىءْ بِزَادِ{[2310]}

فقد حمل على من شارف الموت ، وحمله على الميِّت حقيقةً أبلغ في الهجاء .

وأصل " مَيْتَةٍ " مَيْوِتَةٌ ، فأُعلَّت بقلب الواو ياء ، وإدغام الياء فيها ، وقال الكوفيُّون : أصله " مَوِيتٌ " ، ووزنه " فَعِيلٌ " .

قال الواحديُّ : " المَيْتَة " : ما فارقته الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يُذْبَح{[2311]} .

فصل في بيان أن الآية عامَّة مخصَّصة بالسُّنَّة

هذه الآية الكريمة عامَّة دخلها{[2312]} التخصيص ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ : السَّمَكُ والجَرَادُ ، ودَمَانِ : الكَبِدُ والطِّحَالُ {[2313]} " وكذلك حديث جابر في العنبر ، وقوله - عليه الصلاة والسلام – في البحر : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الحِلُّ مَيْتَتَهُ " {[2314]} وهذا يدلُّ على تخصيص الكتاب بالسُّنّة .

وقال عبد الله بن أبي أوفى : " غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتِ ، نأْكُلُ الجَرَاد{[2315]} " وظاهره أكل الجراد كيف ما مات [ بعلاجٍ ، أو حَتْفَ أنفِهِ ] ، والله أعلم .

فصل في بيان حكم وقوع الطائر ونحوه في القدر

إذا وقع طائرٌ ونحوه في قدرٍ ، فمات ، فقال مالكٌ : لا يُؤكل كل ما في القدر .

وقال ابن القاسم : يغسل اللَّحم ويؤكل ، ويراق المرق ، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما{[2316]} .

فصل في بيان حكم الدَّم

وأما الدَّم : فكانت العرب تجعل الدم في النَّار ، وتشويها ، ثم تأكلها ، فحرَّم الله تعالى الدَّم ، واتفق العلماء على أن الدم حرامٌ نجسٌ ، لا يؤكل ، ولا ينتفع به .

قال بعضهم{[2317]} : يحرم ، إذا لم تعم به البلوى ، ويعفى عنه ، إذا عمَّت به البلوى ، كالذي في اللَّحم والعروق ، واليسير في الثَّوب والبدن يصلَّى فيه ، وأطلق الدَّم هنا ، وقيَّده بالمسفوح في " الأنعام{[2318]} " ، فيحمل المطلق على المقيَّد ، وأمَّا لحم الخنزير ، فاللَّحم معروف ، وأراد الخنزير بجميع أجزائه ، لكنه خصَّ اللحم ؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل ، واللَّحم جمعه لحوم ولحمان ، يقال : لحم الرَّجل ، بالضم ، لحامةً ، فهو لحيمٌ ، أي : غلظ ، ولحم ، بالكسر يلحم ، بالفتح ، فهو لحمٌ : اشتاق إلى اللَّحم ، ولحم النَّاسَ ، فهو لاحمٌ ، أي : أطعمهم اللحم ، وألحم : كثر عنده اللَّحم [ والخنزير : حيوانٌ معروفٌ ، وفي نونِهِ قولان :

أصحهما : أنَّها أصليَّة ، ووزنه : " فِعْلِيلٌ " ؛ كغربيبٍ .

والثاني : أنها زائدةٌ ، اشتقوه من خزر العين ، أي : ضيقها ؛ لأنه كذلك يَنْظُر ، وقيل : الخَزَرُ : النَّظَرُ بمؤخِّر العين ؛ يقال : هو أخزر ، بيِّن الخزر ]{[2319]} .

فصل في بيان تحريم الخنزير

أجمعت الأُمَّة على تحريم لحم الخنزير ، قال مالك : إن حلف لا يأكل الشَّحم ، فأكل لحماً لم يحنث بأكل اللحم ، ولا يدخل اللحم في اسم الشَّحم ؛ لأنَّ اللحم مع الشَّحم يسمَّى لحماً ، فقد دخل الشَّحم في اسم اللَّحم ، واختلفوا في إباحة خنزير الماء ؛ قال القُرْطُبِيُّ{[2320]} : لا خلاف في أنَّ جملة الخنزير محرَّمةٌ ، إلاَّ الشَّعر ، فإنَّه يجوز الخرازة به .

قوله : " وَمَا أُهِلَّ بِهِ " : " مَا " موصولةٌ بمعنى " الَّذِي " ، ومحلُّها : إمَّا النصبُ ، وإمَّا الرفع ؛ عطفاً على " المَيْتة " والرَّفع : إما خبر " إنّ " ، وإما على الفاعلية ؛ على حسب ما تقدم من القراءات ؛ و " أُهِلَّ " مبنيٌّ للمفعول ، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور في " بِهِ " والضمير يعود على " ما " والباء بمعنى " في " ولا بد من حذف مضافٍ ، أي : " في ذبحه " ؛ لأن المعنى : " وما صِيحَ في ذَبْحِهِ لغير الله " ، والإهلال : مصدر " أَهَلَّ " ، أي : صَرَخَ .

قال الأصْمعِيُّ : أصله رفع الصَّوت ، وكلُّ رافعٍ صوته ، فهو مهلٌّ . ومنه الهلالُ ؛ لأنَّه يصرخ عند رؤيته ، واستهلَّ الصبيُّ قال ابن أحمر : [ السريع ]

901 - يُهِلُّ بِالغَرْقَدِ غَوَّاصُهَا *** كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ{[2321]}

وقال النَّابِغَةُ : [ الكامل ]

902 - أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا *** بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ{[2322]}

وقال القائل : [ المديد ]

903 - تَضْحَكُ الضَّبعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ *** وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ{[2323]}

وقيل للمحرم : مُهِلٌّ ؛ لرفع الصوت بالتَّلبية ، و " الذَّابح " مهلٌّ ؛ لأنَّ العرب كانوا يسمُّون الأوثان عند الذَّبح ، ويرفعون أصواتهم بذكرها ، فمعنى قوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } ، يعني : ما ذبح للأصنام ، والطَّواغيت ، قاله مجاهد ، والضَّحَّاك وقتادة{[2324]} ، وقال الرَّبيع ابن أنسٍ ، وابن زيد : يعني : ما ذكر عليه غير اسم الله{[2325]} .

قال ابن الخطيب{[2326]} - رحمه الله - : وهذا القول أولى ؛ لأنَّه أشدُّ مطابقةً للَّفظ .

قال العلماء : لو ذبح مسلم ذبيحةً ، وقصد بذبحها التقرُّب إلى [ غير ] الله تعالى ، صار مرتدّاً ، وذبيحته ذبيحة مرتدٍّ ، وهذا الحكم في ذبائح غير أهل الكتاب .

أمَّا ذبائح أهل الكتاب ، فتحلُّ لنا ، لقوله تبارك وتعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [ المائدة : 5 ] .

فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال

اختلفوا في التَّحريم المضاف إلى الأعيان ، [ هل يقتضي الإجمال ؟

فقال الكَرْخيُّ : إنَّه يقتضي الإجمال ، لأنَّ الأعيان ]{[2327]} لا يمكن وصفها بالحل والحرمة ، فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها ، وهو غير محرَّم ، فلا بُدَّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصٍّ ، وليس بعض الأفعال أولى من بعضٍ ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملةً .

وأمَّا أكثر العلماء ، فقالوا : إنَّها ليست بمجملةٍ ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرُّف ؛ قياساً على هذه الأجسام ؛ كما أنَّ الذوات لا تملك ، وإنَّما تُمْلَكُ التصرُّفات فيها ، فإذا قيل : " فلانٌ يَمْلِكُ جاريةً " ، فهم كلُّ أحدٍ أنه يملك{[2328]} التصرُّف فيها ؛ فكذا هاهنا .

فإن قيل : لم لا يجوز تخصيص هذا التَّحريم بالأكل ؛ لأنَّه المتعارف من تحريم الميتة ، ولأنَّه ورد عقيب قوله : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - في خبر شاة ميمونة : " إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُهُا{[2329]} "

فالجواب عن الأوَّل : لا نسلِّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل .

وعن الثَّاني : بأنَّ هذه الآية الكريمة مسألةٌ بنفسها ؛ فلا يجب قصرها على ما تقدَّم ، بل يجب إجراؤها على ظاهرها .

وعن الثَّالث : أنَّ ظاهر القرآن مقدَّم على خبر الواحد ، هذا إذا لم نُجَوِّزْ تخصيص القرآن بخبر الواحد ، فإن جوَّزناه ، يمكن أن يجاب عنه ؛ بأن المسلمين ، إنَّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية ؛ فدلَّ انعقاد إجماعهم على أنَّها غير مختصَّة ببيان حرمة الأكل ، وللسَّائل أن يمنع هذا الإجماع ، والله تعالى أعلم .

فإن قيل : كلمة " إنَّما " تفيد الحصر ، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة ، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات ، وزاد فيها : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردِّية ، والنَّطيحة ، وما أكل السَّبع ، فما معنى هذا الحصر ؟

فالجواب : أنَّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها ، وإن قلنا : إنَّ كلمة " إنَّما لا تفيد الحصر ، فالإشكال زائلٌ .

فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ

للفقهاء سبعة مذاهب في أمر الدباغ :

فأولها : قول الزُّهريِّ : يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدِّباغ ، ويليه داود ، قال : تطهر كلُّها بالدِّباغ ، ويليه مالكٌ ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلُّها دون باطنها ، ويليه أبو حنيفة - رضي الله عنه - قال : يطهر كلها بالدِّباغ إلا جلد الخنزير ، ويليه قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - قال : تطهر كلُّها بالدِّباغ إلاَّ جلد الكلب والخنزير ، ويليه الأوزاعي ، وأبو ثور ، قالا : يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط ، ويليه أحمد بن حنبل ، قال : لا يطهر منها شيء بالدباغ ؛ واحتجَّ بالآية الكريمة ، والخبر ؛ أما الآية : فقوله تبارك وتعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] فأطلق التحريم ، ولم يقيِّده بحالٍ دون حالٍ ، وأمَّا الخبر : فقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث عبد الله بن عُكَيم ، لأنه قال : " أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وفَاتِهِ بِشَهْرٍ ، أو شَهْرَيْنِ : إنِّي كَنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ في جُلُودِ المَيْتَةِ ، فَإذَا أَتَاكُمْ كِتَابي هَذَا ، فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهَابٍ ، وَلاَ عَصَبٍ " {[2330]} .

واختلفوا في أنَّه ، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيِّ ، والبهيمة ؟ فمنهم : من منع منه ؛ وقال : لأنَّه انتفاعٌ بالميتة ، والآية الكريمة دالَّةٌ على تحريم الانتفاع بالميتة ، فأمَّا إذا أقدم البازيُّ من عند نفسه على أكل الميتة ، فهل يجب عليه منعه ، أم لا ؟ فيه احتمالٌ .

فصل اختلافهم في حرمة الدِّماء غير المسفوحة

حرَّم جمهور العلماء الدَّم ، سواءٌ كان مسفوحاً ، أو غير مسفوحٍ ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : [ دمٌ السَّمك ليس بمحرَّم .

حجَّة الجمهور : ظاهر هذه الآية الكريمة ، وتمسَّك أبو حنيفة - رضي الله عنه - ]{[2331]} بقوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً }

[ الأنعام : 145 ] فصرَّح بأنَّه لم يجد من المحرمَّات شيئاً ، إلاّ ما ذكر ، فالدَّم الذي لا يكون مسفوحاً ، وجب ألاَّ يكون محرَّماً ؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة خاصَّة ، وتلك عامَّةٌ ، والخاصُّ مُقدَّمٌ على العامِّ .

وأُجيب بأنَّ قوله " لا أجِدُ " ليس فيه دلالةُ على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية ، بل على أنَّه تعالى ما بيَّن له إلاَّ تحريم هذه الأشياء ، وهذا لا ينافي أن يبيِّن له بعد ذلك تحريم شيءٍ آخر ، فلعلَّ قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] نزلت بعد ذلك ، فكان ذلك بياناً لتحريم الدَّم مسفوحاً ، أو غير مسفوح .

وإذا ثبت هذا ، وجب الحكم بحرمة جميع الدِّماء ، ونجاستها ، فيجب إزالة الدَّم عن اللَّحم ما أمكن ، وكذا في السَّمك ، وأيُّ دمٍ وقع في الماء ، أو الثَّوب ، فإنه ينجس ذلك المورود .

واختلفوا في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام- : " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ " ، هل تسمية الكبد والطِّحال دماً حقيقةٌ ، أم تشبيه{[2332]} .

فصل في شراء الخنزير ، وأكل خنزير الماء

أجمعت الأُمَّة على أنَّ الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وإنَّما ذكر الله تبارك وتعالى لحمه ؛ لأن معظم الانتفاع متعلِّق به ، واختلفوا في أنَّه هل يجوز أن يشترى ؟

فقال أبو حنيفة ، ومحمد : يجوز ، وقال الشافعيُّ : لا يجوز ، وكره أبو يوسف - رحمه الله تعالى - الخزز به ، وروي عنه الإباحة .

واختلفوا في خنزير الماء ، فقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والشافعي ، والأوزاعيُّ : لا بأس بأكل شيءٍ يكون في البحر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤكل .

حجَّة الشافعيِّ قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] وحجَّة أبي حنيفة : أنَّ هذا خنزير ، فيدخل في آية التَّحريم .

قال الشَّافِعيُّ{[2333]} - رضي الله عنه - : إذا أطلق الخنزير ، لم يتبادر إلى الفهم لحم السَّمك ، بل غير السَّمك بالاتِّفاق ، ولأنَّ خنزير الماء لا يسمَّى خنزيراً على الإطلاق ، بل يسمَّى خنزير الماء .

فصل

من الناس : من زعم أنَّ المراد ب { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } ذبائحُ عَبَدَةِ الأوثان على النصب ، قال ابن عطيَّة - رضي الله عنه - : رأيتُ في أخبار الحسن بن أبي الحسن : أنه سئل عن امرأة مترفهة صنعت للعبها عرساً ، فذبحت جزوراً ، فقال الحسن - رضي الله عنه - : لا يحلُّ أكلها ، فإنها نحرت لصنم ، وأجازوا ذبيحة النَّصارى ، إذا سمَّوا عليها باسم المسيح ، وهو مذهب عطاء ، ومكحول ، والحسن ، والشَّعبيِّ ، وسعيد بن المسيِّب . وقال مالكٌ ، الشافعيُّ وأحمد وأبو حنيفة لا يحل كل ذلك ، لأنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فوجب أن يحرم .

قال عليُّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : إذا سمعتم اليهود والنصارى يلهُّون لغير الله ، فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم ، فكلوا ، فإنَّ الله تبارك وتعالى ، قد أحلَّ ذبائحهم ، وهو يعلم ما يقولون ؛ واحتجَّ المخالف بقوله تبارك وتعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [ المائدة : 5 ] وهذا عامٌّ ، وبقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ }

فدلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ المراد بقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } هو المراد ب { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } ، ولأن النَّصارى ، إذا سمَّوا الله تعالى ، فإنَّما يريدون به المسيح ، فإذا كانت إرادتهم لذلك ، لم تمنع حلَّ ذبيحتهم ، مع أنَّه يهلُّ به لغير الله تعالى ، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه ، إذ ظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح .

والجواب عن الأوَّل : أن قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [ المائدة : 5 ] عامٌّ ، وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه } خاصٌّ ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ .

وعن الثاني أن قوله تعالى : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } لا يقتضي تخصيص قوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } ؛ لأنهما آيتان متباينتان .

وعن الثالث : إنَّما كُلِّفنا بالظَّاهر ، لا بالباطن ، فإذا ذبحه على اسم الله تعالى ، وجب أن يحلَّ ، ولا سبيل لنا إلى الباطن .

قوله : " فَمَنِ اضْطُرَّ " في " مَنْ " وجهان :

أحدهما : أن تكون شرطيةً .

والثاني : أن تكون موصُولةً بمعنى " الذي " .

فعلى الأوَّل : يكون " اضطُرَّ " في محلِّ جزم بها ، وقوله : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } جواب الشرط ، والفاء فيه لازمةٌ .

وعلى الثاني : لا محلَّ لقوله " اضْطُرَّ " من الإعراب ، لوقوعه صلةً ، ودخلت الفاء في الخبر ؛ تشبيهاً للموصول بالشَّرط ، ومحلُّ { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } الجزم على الأوَّل ، والرفع على الثاني . والجمهور على " اضْطُرَّ " بضمِّ الطاء ، وهي أصلها ، وقرأ{[2334]} أبو جعفر بكسرها ؛ لأنَّ الأصل " اضْطُرِرَ " بكسر الراء الأولى ، فلمَّا أدغمت الراء في الرَّاء ، نقلت حركتها إلى الطَّاء بعد سلبها حركتها ، وقرأ{[2335]} ابن مُحَيْصِن : " اطُّرَّ " بإدغام الضَّاد في الطَّاء ، وقد تقدَّم الكلام في المسألة هذه عند قوله : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ } [ البقرة : 126 ] .

وقرأ أبو عَمْرٍو{[2336]} ، وعاصمٌ ، وحمزة بكسر نون " مَنِ " على أصل التقاء الساكنين ، وضمَّها الباقون ؛ إتباعاً لضمِّ الثالث .

وليس هذا الخلاف مقصور على هذه الكلمة ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين ؛ وضُمَّ الثالث ضمَّاً لازماً نحو : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ } [ الأنعام : 10 ] { قُلِ ادْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] ،

{ وَقَالَتِ اخْرُجْ } [ يوسف : 31 ] ، جرى الخلاف المذكور ، إلاَّ أنَّ أبا عمرو خرج عن أصله في { أَو } [ المزمل : 3 ] و{ قُلِ ادْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] فضمَّهما ، وابن ذكوان خرج عن أصله ، فكسر التنوين خاصَّة ؛ نحو { مَحْظُوراً انظُرْ } [ الإسراء : 20 - 21 ] واختلف عنه في { بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ } [ الأعراف : 49 ] { خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ }

[ إبراهيم : 26 ] فمن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضمَّ ، فللإتباع ، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك . عند ذكره ، إن شاء الله - تعالى - والله أعلم .

قوله : " غَيْرَ باغٍ " : " غَيْرَ " : نصب على الحال ، واختلف في صاحبها :

فالظاهر : أنه الضمير المستتر [ في " اضْطُرَّ " ]{[2337]} ، وجعله القاضي ، وأبو بكر الرازيُّ من فاعل فعل محذوف بعد قوله " اضْطُرَّ " ؛ قالا : تقديره : " فَمَنَ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ " ؛ كأنهما قصَدَا بذلك أن يجعلاه قيداً في الأكل لا في الاضطرار .

قال أبو حيَّان{[2338]} : ولا يتعيَّن ما قالاه ؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدَّر بعد قوله { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } بل هو الظاهر والأولى ؛ لأنَّ في تقديره قبل " غَيْرَ بَاغٍ " فصلاً بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله : " غَيْرَ بِاغٍ " .

و " عَادٍ " : اسم فاعل من : عَدَا يَعْدُو ، إذا تجاوز حدَّه ، والأصل : " عَادِوٌ " فقلب الواو ياءً ؛ لانكسار ما قبلها ؛ كغاز من الغزو ، وهذا هو الصحيح ؛ وقيل : إنَّه مقلوب من ، عاد يعود ، فهو عائدٌ ، فقدِّمت اللام على العين ، فصار اللَّفظ " عَادِوٌ " فأعلَّ بما تقدَّم ، ووزنه " فَالِعٌ " ؛ كقولهم : " شَاكٍ " في " شَائِكٍ " من الشَّوكة ، و " هارٍ " ، والأصل " هَائِر " ، لأنَّه من : هَارَ يَهُورُ .

قال أبُو البَقَاءِ{[2339]} - رحمه الله تعالى - : " ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوباً ، عطفاً على موضع " غَيْرَ " جاز " ، يعني : فكان يقال : " وَلاَ عَادِياً " .

قوله : " اضْطُرَّ " أُحْوِجَ وأُلْجِىءَ ، فهو : " افْتُعِلَ " من الضَّرورة ، وأصله : من الضَّرر ، وهو الضِّيق ، وهذه الضَّرورة لها سببان :

أحدهما : الجوع الشَّديد ، وألاَّ يجد مأكولاً حلالاً يسدُ به الرَّمَق ، فيكون عند ذلك مضطراً .

والثاني : إذا أكره على تناوله .

واعلم أنَّ الاضطرار ليس من فعل المكلَّف ؛ حتى يقال : إنَّه لا إثم عليه ، فلا بدَّ من إضمارٍ ، والتقدير : " فَمَن اضْطُرَّ ، فأكَلَ ، فلا إِثْمٍ عَلَيْه " ونظيره : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] ، فحذف " فأَفْطَرَ " ، وقوله تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ } [ البقرة : 196 ] وإنما جاز الحذف ؛ لعلم المخاطب به ، ودلالة الخطاب عليه .

والبغي : أصله في اللغة الفساد .

قال الأصمعيُّ : يقال : بغى الجرح بغياً : إذا بدأ في الفساد ، وبغت السماء ، إذا كثر مطرها ، والبغي : الظلم ، والخروج عن الإنصاف ؛ ومنه قوله تبارك وتعالى { وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ }

[ الشورى : 39 ] وأصل العدوان : الظُّلم ، ومجاوزة الحد .

فصل

اختلفوا في معنى قوله { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } فقال بعضهم{[2340]} : " غَيْرَ بَاغٍ " أي غير خارجٍ على السُّلطان ، و " لاَ عَادٍ " أي : متعدٍّ بسفره ، أعني : عاص بأن خرج لقطع الطَّريق ، والفساد في الأرض ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهدٍ ، وسعيد{[2341]} بن جبير .

وقالوا : لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة ، إذا اضطر إليها ، ولا أن يترخَّص في السَّفر بشيءٍ من الرُّخص ؛ حتى يتوب ، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل ، واختلفوا في معناه .

فقال الحسن ، وقتادة ، والرَّبيع ، ومجاهد ، وابن زيد : أي : يأكل من غير ضرورة{[2342]} أي : بغي في أكله " ولاَ عَادٍ " ، أي : ولا يعدو لشبعه .

وقيل : " غَيْرَ بِاغٍ " أي : غير طالبها ، وهو يجد غيرها ، " وَلاَ عَادٍ " ، أي : غير متعدٍّ ما حد له ، فيأكل حتَّى يشبع ، ولكن يأكل ما يسدُّ رمقه{[2343]} .

وقال مقاتل : " غَيْرَ بَاغٍ " أي : مستحلٌّ لها ، " وَلاَ عَادٍ " أي : يتزوَّد منها ، وقيل : " غَيْرَ بَاغٍ " ، أي : مجاوز للحدٍّ الذي أُحِلَّ له ، " وَلاَ عَادٍ " أي : لا يقصِّر فيما أبيح له فيدعه .

قال مسروقٌ : من اضطُرَّ إلى الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، فلم يأكل ، ولم يقرب ، حتى مات ، دخل النَّار .

وقال سهل بن عبد الله : " غَيْرَ بَاغٍ " : مفارقٍ للجماعة ، " ولاَ عَادٍ " ، أي : ولا مبتدعٍ مخالف السنة ، ولم يرخِّص للمبتدع تناول المحرَّم عند الضرورة .

فإن قيل : الأكل في تلك الحالة واجبٌ ، وقوله : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أيضاً يفيد الإباحة ، وأيضاً : فإنَّ المضْطَرَّ كالمُلْجَأ إلى الفعل ، والملجأ لا يوصف بأنَّه لا إثم عليه .

فالجواب : أنَّا قد بينَّا عند قوله { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا }[ البقرة : 158 ] : أنَّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب ، والمندوب ، والمباح ، وأيضاً : قوله تبارك وتعالى : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } : معناه : رفع الحرج والضِّيق .

واعلم : أنَّ هذا الجائع ، إن حصلت فيه شهوة الميتة ، ولم يحصل له فيه النُّفرة الشَّديدة ، فإنَّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرَّمق ، وكما يصير ملجأً إلى الهرب من السَّبع ، إذا أمكنه ذلك ، أمَّا إذا حصلت ألنُّفرة ، فإنَّه بسبب تلك النُّفرة ، يخرج عن أن يكون ملجأً ، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النِّفار .

فإن قيل : قوله تبارك وتعالى : " فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ " يناسب أن يقال بعده : " إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " فإنَّ الغفران ، إنَّما يذكر عند حصول الإثم .

فالجواب من وجوه{[2344]} :

أحدها : أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدَّم إلاَّ أنه زالت الحرمة ؛ لقيام المعارض ، فلمَّا كان تناوله تناولاً لما حصل فيه المقتضي للحرمة ، عبَّر عنه بالمغفرة ، ثم ذكر بعده أنَّه رحيم ، يعني : لأجل الرحمة عليكم ، أبحت لكم ذلك .

وثانيها : لعل المضطرَّ يزيد على تناول قدر الحاجة .

وثالثها : أن الله تعالى ، لمَّا بيَّن هذه الأحكام ، عقَّبها بقوله تعالى : " غَفُورٌ " للعصاة ، إذا تابوا ، " رَحِيمٌ " بالمطيعين المستمرِّين على منهج الحكمة .

فصل في معنى المضطر

قال الشافعيُّ - رضي الله عنه - : قوله تعالى { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } معناه : أن كل من كان مضطرّاً لا يكون موصوفاً بصفة البغي ، ولا بصفة العدوان ألبتَّة ، فأكل ؛ فلا إثم عليه{[2345]} .

وقال أبو حنيفة : معناه : " فمن اضْطُرَّ فأَكَلَ غَيْرَ بِاغٍ ، ولا عادٍ في الأكلِ ، فلا إثْمَ عَلَيْه " فخصَّص صفة البغي والعدوان بالأكل ، ويتفرَّع على هذا الخلاف ، هل يترخَّص العاصي بسفره ، أم لا ؟

فقال الشافعيُّ : لا يترخَّص ؛ لأنَّه يوصف بالعدوان : فلا يندرج تحت الآية الكريمة{[2346]} .

وقال أبو حنيفة : يترخَّص ؛ لأنَّه مضطرٌّ ، وغير باغٍ ، ولا عادٍ في الأكل ، فيندرج تحت الآية{[2347]} .

احتجَّ الشافعي - رضي الله عنه - بأنَّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكُلِّ ، ثم أباحها للمضطرِّ الموصوف بأنَّه غير باغٍ ، ولا عادٍ ، والعاصي بسفره غير موصوفٍ بهذه الصفة ؛ لأنَّ قولنا : " فلانٌ ليس بمتعدٍّ " نقيضٌ لقولنا : " فلانٌ متعدٍّ " ، وقولنا : " فُلاَنٌ متعدٍّ " يكفي في صدقه كونه متعدِّياً لأمر من الأمور ، سواء كان في سفرٍ ، أو أكلٍ ، أو غيرهما ، وإذا صدق عليه اسم التعدِّي بكونه متعدِّياً في شيء من الأشياء فإن قولنا " غَيْرَ بِاغٍ ، وَلاَ عَادٍ " لا يصدق إلاَّ إذا انتفى عنه صفة التعدِّي من جميع الوجوه ، والعاصي بسفره متعدٍّ بسفره ، فلا يصدق عليه كونه " غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ " ، فيجب بقاؤه تحت التَّحريم .

فإن قيل : يشكل بالعاصي في سفره ؛ فإنَّه يترخَّص مع أنَّه موصوف بالعدوان .

والجواب : أنَّه عامٌّ دخله التخصيص في هذه الصُّورة ، ثم الفرق بينهما : أنَّ الرخصة إعانة على السَّفر ، فإذا كان السَّفر معصيةً{[2348]} ، كانت الرخصة إعانةً على المعصية ، وإذا لم يكن السَّفر معصيةً في نفسه ، لم تكن الإعانة عليه إعانةً على المعصية ، فافترقا .

فإن قيل : قوله تعالى " غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ " شرطٌ ، والشرط بمنزلة الاستثناء ؛ في أنه لا يستقلُّ بنفسه ، فلا بدَّ من تعلُّقه بمذكورٍ ، ولا مذكور إلاَّ الأكل ؛ لأنَّا بيَّنَّا أنَّ قوله تعالى : " غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ " لا يصدق عليه إلاَّ إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور ، فيدخل فيه نفي العدوان بالسَّفر ضمناً{[2349]} ، ولا نقول : اللفظ يدلُّ على التعيين{[2350]} .

وأمَّا تخصيصه بالأكل : فهو تخصيصٌ من غير ضرورةٍ ، ثمَّ الذي يدلُّ على أنَّه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوهٌ :

أحدها : أنَّ قوله " غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ " حالٌ من الاضطرار ؛ فلا بدَّ وأن يكون وصف الاضطرار باقياً ، مع بقاء كون : " غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ " حالاً من الاضطرار ، فلو كان المرادُ بقوله : " غَيْرَ بَاغٍ ، وَلاَ عَادٍ " كونه كذلك في الأكل - لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه ؛ لأنَّه حال الأكل ، لا يبقى معه حال الاضطرار .

ثانيها : أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم ، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي ، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة .

وثالثها : أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان ، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية ، وكذلك العدوان بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات ، فتخصيصه بالأكل غير جائز .

وثالثها : قوله تبارك وتعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 3 ] فبيَّن في هذه أن المضطرَّ إنما يترخَّص ، إذا لم يكن متجانفاً لإثم ، وهذا يؤيِّد ما قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألاَّ يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور .

احتجَّ أبو حنيفة - رضي الله عنه - ، بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] .

وهذا مضطرٌّ ؛ فوجب أن يترخَّص{[2351]} .

وثانيها : قوله تبارك وتعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ النساء : 29 ] { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] ، والامتناع من الأكل سبب في قتل النَّفس ، وإلقاء بها إلى التهلكة ؛ فوجب أن يحرَّم .

وثالثها : أنه - عليه الصلاة والسلام - رخَّص للمقيم يوماً وليلةً ، وللمسافر ثلاث أيَّامٍ ولياليهنَّ ، ولم يفرق بين العاصي وغيره .

رابعها : أنَّ العاصي بسفره ، إذا كان نائماً ، فأشرف على غرقٍ ، أو حرقٍ ، يجب على الحاضر الَّذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه ، فلأن يجب عليه في هذه الصورة : أن يسعى في إنقاذ مهجته أولى .

وخامسها : أن العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك ؛ من الحيوانات الصَّائلة عليه ، والحيَّة ، والعقرب ، بل يجب عليه ، فكذا ههنا .

سادسها : أَنَّ العَاصِي بسَفَرهِ ، إذا اضطُرَّ ، فلو أباح له رجُلٌ شيئاً من ماله ، فله أَخذُهُ ، بل يجب دفع الضَّرر عن النَّفْس .

[ سابعها : أَنَّ التوبةَ أَعْظَمُ في الوُجُوب وما ذاكَ إِلا لدفع ضررِ النَّار عن النَّفس ]{[2352]} ، وهي أعظمُ من كُلِّ ما يدفع المؤمنُ من المضارِّ عن نفسه ؛ فلذلك دفع ضرر الهلاكِ عن نفسه لهذا الأكلِ ، وإن كان عاصياً .

وثامنها : أَنَّ الضرورة تبيحُ تناولَ طعامِ الغَيْر من دون رضَاهُ ، بل على سَبيل القَهْر ، وهذا التناوُلُ يَحْرُم لولا الاضطرارُ ، فكذا ههنا .

وأُجيبُ عن التمسُّك بالعُمُومات ؛ بأَنَّ دليلنا النَّافي للترخّص أخصُّ دلائِلِهِمُ المرخِّصة والخاصُّ متقدَّم على العامِّ ، وعن الوجوه القياسيَّة بأنه يمكنُه الوصُول إِلى استباحةِ هذه{[2353]} الرخص بالتَّوبة ، فإذا لم يتُبْ ، فهو الجانِي على نَفْسه ، ثم تُعَارَضُ هذه الوجوهُ : بأنَّ الرخصة إِعَانَةٌ على السَّفَر ، فإذا كان السَّفر معصيةً ، كانت الرخصةُ إِعَانَةً على المعصية ، والمعصية ممنوعٌ منها ، والإعَانَةُ سعيٌ في تحصيلها ؛ فالجمع بينهما مُتناقضٌ{[2354]} .

فصل في اختلافهم في اختيار المضطرِّين المحرَّمات

اختلفُوا في المضطرِّ ، إذا وجد كلَّ ما يضطرُّ مِنَ المحرَّمات .

فالأكثرون على أنَّه مخيَّر بين الكُلِّ ، ومنهم من قال : يتناوَلُ الميتة ، دون لَحْم الخنزير ويعد لحم الخنزير أَعظَمَ في التَّحريم .


[2303]:- في ب: بنوع.
[2304]:- ينظر البحر المحيط: 1/660، الدر المصون: 1/441.
[2305]:- ينظر: مصادر القراءة السابقة.
[2306]:- ينظر المحرر الوجيز: 1/239، البحر المحيط: 1/ 660، والدر المصون: 1/441.
[2307]:- عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمان السلمي تابعي ثقة توفي سنة 194هـ. ينظر غاية النهاية: 1/413.
[2308]:- ينظر المحرر الوجيز: 1/239.
[2309]:- سقط في ب.
[2310]:- البيت لأبي المهوس: ينظر: اللسان "لفف"، والقرطبي: 2/146، والدر المصون: 1/441.
[2311]:-ينظر تفسير الرازي: 5/11.
[2312]:- ومحلها في ب.
[2313]:- أخرجه ابن ماجه (2/ 1101- 1102) كتاب الأطعمة باب الكبد والطحال (3314) والدارقطني (4/ 271-272) كتاب الصيد والذبائح والأطعمة (25) والبيهقي (1/ 254) كتاب الطهارة باب (الحوت يموت في الماء والجراد) والشافعي في "المسند" (2/173) كتاب الصيد والذبائح (607) وأحمد في مسنده (2/97).
[2314]:- أخرجه مالك في الطهارة (12) باب الطهور للوضوء، والشافعي في "الأم" (1/3) وابن أبي شيبة (1/ 131) وأبو داود (1/64) رقم (83) والترمذي (1/100) رقم (69) والنسائي (1/50) وابن ماجه (1/136) رقم (386) والدارمي (1/185-186) وأحمد ( 2/ 361) والبيهقي (1/3) والدارقطني (1/36) رقم (13) وابن خزيمة (111) والحاكم (1/141) وعبد الرزاق (1/93-96) وابن حبان (119-موارد) والبغوي في "شرح السنة" (1/368) وقال الترمذي: حديث حسن صححي. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث جابر: أخرج أحمد (3/373) وابن ماجه (388) وابن حبان (2/ 272) رقم (1241) وابن خزيمة (112) والحاكم (1/ 143).
[2315]:-أخرجه البخاري (9/620) كتاب الذبائح والصيد: باب أكل الجراد (4595) ومسلم (3/1546) كتاب الصيد والذبائح: باب إباحة الجراد (52/1952) والنسائي (7/210) والبغوي في "شرح السنة" (6/38).
[2316]:-ينظر تفسير القرطبي: 2/ 148.
[2317]:- وهو خويز منداد من المالكية.
[2318]:- [الآية: 145].
[2319]:- سقط في ب..
[2320]:- ينظر تفسير القرطبي: 2/150.
[2321]:- البيت ذكره ابن منظور في اللسان "عمر". وينظر الدر المصون: 1/442.
[2322]:- ينظر ديوانه: (107)، والقرطبي: 2/151، والدر المصون: 1/442.
[2323]:- البيت لتأبط شرا، ينظر الحماسة: 1/403، اللسان "ضحك"، والبحر المحيط: 1/652، والدر المصون: 1/442.
[2324]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/320) عن قتادة ومجاهد والضحاك وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/308) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن مجاهد.
[2325]:- أخرجه ابن أبي حاتم بمعناه عن أبي العالية، كما في "الدر المنثور" (1/308).
[2326]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 5/11.
[2327]:- سقط في ب.
[2328]:- في ب: كلما خدمته بملك.
[2329]:- أخرجه مالك في "الموطأ" (498) والبخاري (2/ 158)/ (3/ 107) ومسلم كتاب الحيض 100، 101، وأبو داود كتاب اللباس باب 4 والنسائي (7/172) وابن ماجه (3610) وأحمد (1/261-262-330) و (6/329) والدارمي (2/86) والبيهقي (1/15، 23) والطبراني (11/ 167) وابن أبي شيبة (8/191) وابن عبد البر في "التمهيد" (4/154) والطحاوي في "المشكل"، (1/197) وفي "شرح المعاني" (1/472) والدارقطني (1/41) والحميدي (315، 391).
[2330]:أخرجه أبو داود (2/465) كتاب اللباس باب من روي أنه لا ينتفع بإهاب الميتة (4127) والترمذي (4/194) رقم (1729) وابن ماجه (3613) والنسائي (7/175) وأحمد (4/ 310-311) وابن أبي شيبة (8/ 315) و (13/53) والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/ 259) وابن عبد البر (4/ 259-260-261) والطبراني في "الأوسط" (2/101) من حديث عبد الله بن عكيم.
[2331]:- سقط في ب.
[2332]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/18.
[2333]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/19.
[2334]:- ينظر المحرر الوجيز 1/ 240، البحر المحيط 1/665، والدر المصون: 1/442.
[2335]:- ينظر المصادر السابقة.
[2336]:- ينظر: البحر المحيط 1/665، الدر المصون: 1/ 443.
[2337]:- سقط في ب.
[2338]:- ينظر: البحر المحيط 1/ 665.
[2339]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/76.
[2340]:- ينظر: تفسير البغوي 1/140.
[2341]:- - ينظر: تفسير البغوي 1/140.
[2342]:- ينظر: تفسير البغوي 1/141.
[2343]:- ينظر: تفسير البغوي 1/141.
[2344]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/12.
[2345]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/20.
[2346]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/20.
[2347]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/20.
[2348]:- في ب: قصيرا.
[2349]:- في ب: في السفر فمقتضاه أنا.
[2350]:- في ب: وإذا كان كذلك؛ وجب أن يكون متعلقا بالأكل الذي هو في حكم المذكور، لا بالسفر الذي هو غير مذكور فيه، فالجواب هذا ضعيف؛ لأنا بيّنا أن قوله تعالى: {غير باغ ولا عاد}.
[2351]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي.
[2352]:- سقط في ب.
[2353]:- في ب: تلك.
[2354]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/21.