قوله : { عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ ، والتَّقدير : عن حكم الخمر والميسر .
الخمر : هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى ، وقذف بالزَّبد ، ويطلق على ما غلى ، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً .
وفي تسميتها " خَمْراً " أربعة أقوال :
أشهرها : أنَّها سمِّيت بذلك ؛ لأنها تخمر العقل ، أي : تستره ، ومنه : خمار المرأة لستره وجهها ، والخمر : ما واراك من شجر ، وغيره من وهدةٍ ، وأكمة ، والخامر هو الذي يكتم شهادته ؛ [ و : " خَامِري حضَاجِرُ ، أتاك ما تُحَاذِرُ " يُضْرَبُ للأحمق ، وحَضَاجِرُ : علمٌ للضبع ، أي : استتر عن النَّاس ، ودخل في خمار النَّاس ، وغمارهم ] .
ومنه يقال : " أخمرت الأَرْضُ " كثر خمرها - بفتح الميم - الشَّجَرُ الملتفُّ .
أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا *** فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ{[3362]}
أي : ما يستركما من شجرٍ وغيره ، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان :
في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ{[3363]} *** . . .
والثاني : لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ ، فهو من التَّغطية ومنه " خَمِّروا آنيتكم " .
والثالث : - قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل ، أي : تخالطه ، يقال : خامره الدَّاء ، أي : خالطه .
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ *** . . . {[3364]}
ويقال : خَامَرَ السّقام كبده . فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل ، كما سمِّيت مسكراً ؛ لأنَّها تسكر العقل أي : تحجزه .
والرابع : لأنَّها تترك حتى تدرك ، ومنه : " اخْتَمَرَ العَجِينُ " أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرَّأي ، أي : تركه ، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب ، وهي أقوال متقاربةٌ . وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مراداً به اسم الفاعل واسم المفعول .
قال أبو حنيفة : الخمرُ : هو ما كان من عصير العنب وغيره .
حجّة أبي حنيفة : قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل :67 ] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر ، والرِّزق الحسن ؛ فوجب أن يكون مباحاً ؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلاَّ بالمباح .
" وروى ابن عبَّاس أنَّه - عليه السَّلام - أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع ، فاستند إليها وقال : اسقوني ، فقال العبَّاس : لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا ؟ فقال : " مِمّا يُسْقَى النَّاسُ " فجاءه بقدح من نبيذ ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه ، فقال العبَّاس : يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم . فقال : " رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ " فردُّوه عليه ؛ فدعا بماء زمزم ؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال : " إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ " {[3365]} .
وجه الاستدلال به : أن التقطيب لا يكون إلاَّ من الشَّديد ، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته ، كاغتلام البعير سكره .
وأيضاً وردت عند الصَّحابة فيه آثارٌ ؛ روي أنَّ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطِّلاء ما ذهب ثلثاه ، وبقي ثلثه{[3366]} ، ورأى أبو عبيدة ، ومعاذٌ : شرب الطِّلاء على الثُّلث{[3367]} .
وحجَّة القائلين بأنَّ الخمر من عصير العنب وغيره ما روى أبو داود عن عمر - رضي الله عنه - قال : " نَزَلَ تحريمُ الخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وهي من خمسة من العِنَبِ ، والتَّمْرِ ، والحِنْطَةِ ، والشَّعِيرِ ، والذُّرَةِ " {[3368]} .
وفي " الصَّحيحين " عن عمر أنَّه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إنّ الخرم قد حرِّمت ، وهي من خمسة : من العنب ، والتَّمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير والخمر ما خامر العقل{[3369]} . وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " {[3370]} وفي " الصَّحِيحَيْنِ " أنه عليه السَّلام سُئِلَ عن البِتع ، فقال : " كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ ، فَهُوَ حَرَامٌ " {[3371]} والبِتع شراب يتخذ من العسل .
قال الخطابيُّ : والدَّلالة من وجهين :
أحدهما : أنَّ الآية لما دلَّت على تحريم الخمر ، وكان مسمَّى الخمر مجهولاً من القوم ، حسن من الشَّارع أن يقال : مراد الله تعالى من هذه اللَّفظة هذا ، ويكون على سبيل إحداث لغةٍ ، كما في الصَّلاة والصَّومِ وغيرهما .
والوجه الآخر : أن يكون معناه : أنَّه كالخمر في الحرمة ؛ لأن قوله هذا خمر ، فإن كان حقيقةً ؛ فحصل المدّعي ، وإن كان مجازاً ؛ فيكون حكمه كحكمه ؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ الشَّارع ليس مقصوده تعليم اللُّغات على تعليم الأحكام ، وحديث البتع يبطل كلَّ تأويلٍ ذكره أصحاب تحليل الأنبذة ، وإفساد قول من قال : إنَّ القليل من المسكر من الأنبذة مباحٌ ؛ لأنَّه - عليه السَّلام - سُئِلَ عن نوع واحدٍ من الأنبذة ، وأجاب بتحريم الجنس ، فدخل فيه القليل والكثير ، ولو كان ثمَّ تفصيلٌ في شيءٍ من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ " {[3372]} ، وقال : " مَا أَسْكَرَ الفرق منه فمسك الكف منه حرام " {[3373]} .
قال الخطابي : " الفَرقُ " : مِكْيَالٌ يَسَعُ ستَّة عشَرَ رطلاً وروى أبو داود عن أُمِّ سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلِّ مسكرٍ ومفترٍ{[3374]} .
قال الخطَّابيُّ : " المفترُ " كلّ شرابٍ يورث الفتور ، والخدر في الأعضاء .
واستدلُّوا أيضاً بالاشتقاق المتقدّم وأيضاً بقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } [ المائدة :91 ] .
وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة ؛ لأنَّها مظنّته .
وأيضاً فإنّ عمر ، ومعاذ قالا : يا رسول الله ، إنَّ الخمر مسلبةٌ للعقل مذهبة للمال ؛ وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة .
والجواب عن دلائل أبي حنيفة : أنَّ قوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً } [ النحل :67 ] نكرة في سياق الإثبات ، فلم قلتم إنّ ذلك السُّكر هو هذا النَّبيذ .
ثمَّ أجمع المفسِّرون على أنَّ هذه الآية قبل الآيات الدَّالَّة على تحريم الخمر ، فتكون ناسخةً ، أو مخصّصة .
وأمَّا حديث النَّبيذ فلعلَّه كان ماءًا نبذت فيه تمراتٌ ؛ لتذهب ملوحته فتغيَّر طعم الماء قليلاً إلى الحموضة ، وطبعه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في غاية اللَّطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطَّعم ؛ فلذلك قطَّب وجهه ، وإنما صبَّ الماء فيه ؛ إزالة لتلك الحموضة ، أو الرائحة . وأمَّا آثارُ الصَّحابة ، فمتدافعة متعارضة .
فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر
قالوا : نزل في الخمر أربع آيات بمكَّة :
قوله : { وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } [ النحل :67 ] وكان المسلمون يشربونها ، وهي لهم حلالٌ ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصَّحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر ، فإنَّها مذهبةٌ للعقل مسلبةٌ للمال ، فنزل قول تعالى : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }{[3375]} [ البقرة :219 ] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ تَقَدَّمَ في الخَمْر " ، فتركها قومٌ لقوله ( إثْمٌ كبيرٌ ) وشربها قوم لقوله ( ومنافع للناس ) . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعا ناساً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمرٍ ، فشربوا ، وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب ؛ فتقدَّم بعضهم ليصلِّي بهم فقرأ : " قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ " هكذا إلى آخر السورة بحذف " لا " ، فأنزل الله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }{[3376]} [ النساء :43 ] فحرَّم السُّكر في أوقات الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية ، تركها قومٌ ، وقالوا : لا خير في شيءٍ يحول بيننا وبين الصَّلاة وتركها قوم في أوقات الصَّلاة ، وشربوها في غير وقت الصَّلاة ، حتَّى كان الرَّجل يشرب بعد صلاة العِشاء ، فيصبح ، وقد زال عنه السُّكر ، ويشرب بعد صلاة الصُّبح ، فيصحو إذا جاء وقت الظُّهر ، واتخذ عُتبان بن مالك صِبْغاً ودعا رجالاً من المسلمين ، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعيرٍ ، فأكلوا منه ، وشربوا الخمر ، حتى أخذت منهم ، ثمَّ إنّهم افتخروا عند ذلك ، وانتسبوا ، وتناشدوا ، فأنشد سعد قصيدةً فيها هجاءٌ للأنصار ، وفخر لقومه ، فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعيرٍ ، فضرب به رأس سعدٍ ؛ فشجَّه موضّحةٌ{[3377]} فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكى إليه الأنصاريَّ ، فقال عمر : اللَّهُمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ؛ فأنزل الله تعالى : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ } [ المائدة :90 ] إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة :91 ] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأَيَّام ، فقال عمر : انتهينا يا ربّ{[3378]} .
قال ابن الخطيب{[3379]} : والحكمة في وقوع التَّحريم على هذا التَّرتيب أنَّ الله تعالى علم أنَّ القوم كانوا قد أَلِفُوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فعلم أنَّه لو منعهم دفعةً واحدةً لشقّ ذلك عليهم ، فلا جرم درَّجهم في التَّحريم رفقاً بهم ، ومن الناس من قال : إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية ، ثم نزل قوله : { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [ النساء :43 ] فاقتضى ذلك تحريم شربها ؛ لأنَّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلِّي مع السُّكر ، فكان المنع من ذلك منعاً من الشّرب ضمناً ، ثم نزلت آية المائدة ، فكانت في غاية القوَّة في التَّحريم . وعن الرَّبيع بن أنس أنَّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر{[3380]} .
قال أنسٌ : حُرمت عليهم الخمر ، ولم يكن يومئذ للعرب عيشٌ أعجب منها ، وما حرِّم عليهم شيءٌ أشدّ من الخمر{[3381]} .
وقال أنس بن مالك : ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً ، وفلاناً ، إذ جاء رجلٌ فقال : حرمت الخمر . قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس ؛ قال : فما سألوا عنها ، ولا راجعوها بعد خبر الرَّجل{[3382]} .
واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدَّم ؛ فقال قومٌ : هو عصير العنب والرُّطب الَّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النَّار فيه ، واتَّفقت الأُمَّة على أنَّ هذا الخمر نجس يحدُّ شاربها ، ويُفَسَّقُ ، ويكفر مستحلها ، وذهب سفيان الثَّوريُّ ، وأبو حنيفة ، وجماعة إلى أنَّ التَّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها ، كالحنطة ، والشَّعير ، والذُّرة ، والعسل ، والفانيذِ إلاَّ أن يسكر منه فيحرم ، وقال : إذا طبخ عَصِيرُ العِنَبِ والرُّطب ، حتّى ذهب نصفه ، فهو حلالٌ ، ولكنه يكره ، وإن طبخ ، حتَّى يذهب ثلثاه قالوا : هو حلالٌ مباحٌ شربه إلاَّ أنَّ السُّكر منه حرامٌ .
وقال قومٌ : إذا طُبخَ صار العَصِيرُ أدْنَى طبخ ، صار حَلاَلاً ، وهو قول إسماعيل بن علية ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ كل شراب أسكر كثيره ، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه ، وقد تقدَّم ما أجابوا به .
والمَيْسِرُ : القِمَارُ ، مفعل من اليُسْرِ ، يقال : يَسَرَ يَيْسِرُ ؛ قال علقمة : [ البسيط ]
لَو يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا *** وَكُلُّ مَا يَسَرَ الأَقْوَامُ مَغْرُومُ{[3383]}
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي *** أَلَمْ تَيْئَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِس زَهْدَمِ{[3384]}
أحدها : من اليُسْر وهو السُّهولة ؛ لأنَّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل .
والثاني : من اليَسَار ، وهو الغنى ؛ لأنَّه يسلبه يساره .
قال ابن عباسٌ{[3385]} : كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة يخاطرُ الرَّجُلَ على أهله وماله فأيهما قَمَر صاحبه ؛ ذهب بأهله ، وماله ، فنزلت الآية .
الثالث : قال الواحديُّ{[3386]} : إنه من قولهم : يَسُرَ لي هذا الشَّيء يَيْسِرُ يُسْراً وميسراً ، إذا وجب ، واليَاسِرُ الوَاجِبُ بسبب القِدَاحِ . وحكاه الطبريُّ عن مجاهدٍ ، ورد ابن عطيَّة عليه .
الرابع : من يسر إذا جزر ، واليَاسِرُ الجَازِرُ ، وهو الذي يجزّئ الجَزُور أجزاءً . قال ابن عطيَّة : " وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً ؛ لأنَّها موضع اليُسْرِ ، ثمَّ سُمِّيت السِّهَامُ مَيْسراً للمُجَاوَرَةِ " واليَسَرُ : الذي يدخل في الضَّرْبِ بالقِدَاح ، ويجمع على أيسار ، وقيل : بل " يُسَّر " مع يَاسِر كَحَارِس وحُرَّسٍ وأَحْرَاسٍ .
وللميسر كيفيَّةٌ ، وتُسمّى سِهَامُهُ القِدَاحَ والأزلامَ والأقلامَ . وقيل : هي عَشَرَةُ أقْدَاح ، وقيل : أَحَدَ عَشَرَ ، لسبعةٍ منها حُظُوظٌ ، وعلى كُلٍّ منها خُطُوطٌ ، فالخطُّ يقدِّر الحَظَّ ، وتلك القِدَاحُ هي : الفَذُّ وله سهمٌ واحدٌ ، والتَّوءَمُ وله اثنان ، والرَّقيبُ وله ثلاثةٌ ، والحِلْسُ وله أربعةٌ ، والنَّافسُ وله خمسةٌ ، والمُسْبلُ وله ستّةٌ ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خُطُوطَ عليها ، وهي المنيحُ ، والسَّفيحُ ، والوغْدُ .
لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ *** لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ
وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ *** وَسَفِيحٌ وَمَنِيحُ{[3387]}
ومن زاد رابعاً سمَّاه المضعَّف ، وإنَّما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة ، وهو الضَّارب ، فلا يميل مع أحد ، وهو رجلٌ عدلٌ عندهم ، فيجثو ، ويلتحف بثوبٍ ، ويخرج رأسه ، فيجعل تلك القداح في خريطة وتسمى الرِّبابة بكسر الرَّاء مشبَّهة بالكتابة فيها سهامُ المَيْسِرِ ، وربَّما يسمُّون جميع السِّهام ربابة ، ثمَّ يخلخلها ويدخل يده فيها ، ويخرج باسم رجُلٍ رجلٍ قِدحاً فمن خرج على اسمه قدحٌ : فإن كان من ذوات السِّهام ؛ فاز بذلك النَّصيب ، وأخذه ، وإن كان من الأغفال غرِّم من الجزور ؛ ولا يأخذ شيئاً .
وقال بعضهم : لا يأخذ شيئاً ، ولا يغرم ، ويكون ذلك القدح لغزاً .
وكانوا يفعلون هذا في الشَّتوة ، وضيق العيش ، ويقسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمُّون من لم يدخل معهم فيه : البَرم ويذمونه ، والجَزورُ تقسم عند الجمهور على عدد القداح ، فتقسم على عشرة أجزاء ، وعند الأصمعي على عدد خطوط القداح ، فتقسّم على ثمانية وعشرين جزءاً . وخطَّأ ابن عطية الأصمعيَّ في ذلك ، وهذا عجيبٌ منه ؛ لأنَّه يحتمل أنَّ العرب كانت تقسِّمها مرَّةً على عشرةٍ ، ومرَّةً على ثمانية وعشرينَ .
فهذا أصل القمار التي كانت تفعله العرب .
واختلفوا في الميسر ؛ هل هو اسم لذلك القمار المعيَّن أو اسم جميع أنواع القمار ، فقال بعض العلماء : المراد من الآية جميع أنواع القمار قال عليه الصلاة والسلام : " إيَّاكُم وَهَاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ المُوسومتين فَإِنَّها مِنَ مَيْسِرِ العَجَمِ " {[3388]} .
وعن ابن سِيرِينَ : ومجاهد ، وعطاءٍ ، وطاوسٍ ، كلُّ شيءٍ فيه قمارٌ فهو الميسر ، حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز ، والكعاب{[3389]} .
وروي عن عليّ - رضي الله عنه - في النرد ، والشِّطرنج{[3390]} : أنَّه من المَيْسر{[3391]} . وقال الشَّافعيُّ - رضي الله عنه - : إذا خلا الشِّطرنجُ عن الرهان واللِّسان عن الطُّغيان ، والصَّلاة عن النِّسيان ؛ لم يكن حراماً ، وهو خارج عن الميسر ؛ لأنَّ الميسر ما يوجب دفع مال ، أو أخذ مالٍ ، وهذا ليس كذلك ، فلا يكون قماراً ولا ميسراً .
وأمّا السَّبقُ{[3392]} في الخفِّ ، والحافر ، والنُّشابِ ، فخصّ بدليلٍ .
قوله : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } الجَارُّ خبر مقدّم ، و " إثْمٌ " مبتدأ مؤخَّرٌ ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجبٍ ، وإن كان المبتدأ نكرةً ، لأنَّ هنا مسوغاً آخر ، وهو الوصف ، أو العطف ، ولا بدّ من حذف مضافٍ أيضاً ، أي : في تعاطيهما إثمٌ ؛ لأنَّ الإثم ليس في ذاتها .
وقرأ{[3393]} حمزة والكسائيُّ : " كثيرٌ " بالثَّاء المثَّلثة ، والباقون بالباء ثانية الحروف . ووجه قراءة الجمهور واضحٌ ، وهو أنَّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذَّنب ، ومنه آية { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء :2 ] . وسمِّيت الموبقات : " الكبَائِر " ، ومنه قوله تعالى : { يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ } [ الشورى :37 ] ، و{ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء :31 ] وشرب الخمر ، والقمار من الكبائر ، فناسب وصف إثمهما بالكبر ، وقد أجمعت السَّبعة على قوله : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } بالباء الموَّحدة ، وهذه توافقها لفظاً .
وأمَّا وجه قراءة الأخوين : فإمَّا باعتبار الآثمين من الشَّاربين ، والمقامرين ، فلكلِّ واحد إثمٌ ، وإمّا باعتبار ما يترتّب [ على تعاطيهما من توالي العقاب ، وتضعيفه ، وإمّا باعتبار ما يترتَّب ] على شربهما ممَّا يصدر من شربها من الأقوال السَّيئة والأفعال القبيحة .
وإمّا باعتبار ما يترتَّب على تعاطيهما من توالي العقاب ، وتضعيفه .
وإمَّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنباً إلى أن شربت ، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر ، ولعن معها عشرةً : بائعها ، ومبتاعها وغيرهما ، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة . وأيضاً فإن قوله : " إثْم " ، مقابلٌ ل " مَنَافِع " ، و " منافع " جمعٌ ، فناسب أن توصف مقابلةً بمعنى الجمعيَّة ، وهو الكثرة . وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن ، وهو أن يذكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم ، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءتي : " مَلِك " ، و{ مَلِكِ } [ الفاتحة :3 ] .
وقال أبو البقاء{[3394]} : الأَحْسَنُ القِرَاءَةُ بالبَاء ، لأنه يقال : إثمٌ كبيرٌ وصغيرٌ ، ويقال في الفواحش العظام : " الكَبَائِرُ " ، وفيما دون ذلك " الصَّغَائِرُ " وقد قرئ بالثَّاء وهو جيدٌ في المعنى ؛ لأنَّ الكثرة كبرٌ ، والكثير كبيرٌ ، كما أنَّ الصَّغير حقيرٌ ويسيرٌ .
وقرأ عبد الله{[3395]} - وكذلك هي في مصحفه - : " وإثمهما أَكْثَرُ " بالمثلَّثة ، وكذلك الأولى في قراءته ، ومصحفه .
دلَّ قوله تعالى : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } على تحريم الخمر كقوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف :33 ] والإثم يستحق به ؛ فدلَّ مجموع الآيتين على التَّحريم ، وأيضاً فإنَّ الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به : ما يستحق به العقاب من الذُّنوب ، وأيُّهما كان ، فلا يصحُّ أن يوصف به إلاَّ المحرّم .
وأيضاً قد قال تعالى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } فَصَرَّحَ بِرُجْحَانِ الإِثْمِ ، وذلك يوجب التَّحْرِيمَ .
فإن قيل : لا تدلُّ الآية على أنَّ شرب الخمر حرامٌ ، بل تدلُّ على أنَّ فيه إثماً ، فهَبْ أنَّ ذلك الإثم حرامٌ ، فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم ؛ وجب أن يكون حراماً ؟
فالجواب أنَّ السُّؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر ، فلمَّا بين تعالى أنَّ فيه إثماً ، كان المراد أنَّ ذلك الإثم لازمٌ له على جميع التَّقديرات ، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرَّمة ، ومستلزم المحرَّم محرَّمٌ ؛ فوجب أن يكون الشُّرب محرّماً .
فإن قيل هذه الآية لا تدلُّ على حرمة الخمر لوجوهٍ :
أحدها : أنَّه تعالى أثبت فيها منافع للنَّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعةٌ .
الثاني : لو دلَّت الآية على حرمتها ، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة ؟
الثالث : أنَّه أخبر أنَّ فيها إثمٌ كبيرٌ ، فمقتضاه أنَّ ذلك الكبير ملازماً لها ما دامت موجودة ، ولو كان ذلك سبباً لحرمتها ؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشَّرائع .
فالجواب عن الأوَّل : أنَّ حصول النَّفع فيها ليس مانعاً من حرمتها ؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ .
وعلى الثاني : أنّا روينا عن ابن عباس أنَّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه ، غير مرويٍّ عنهم ، وقد يجوز بطلب الكبار من الصَّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التَّحريم كما التَمَسَ إبراهيم - صلوات الله عليه - مشاهدة إحياء الموتى ، ليزداد سكوناً ، وطمأنينة .
وعن الثالث : أنَّ قوله { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ مفسدةٌ لهم ، وليس مَفْسَدَةٌ للَّذِينَ من قبلهم .
فصل في بيان الإثم الكبير في الآية
أحدها : أنَّه مزيلٌ للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان ، وإذا كان الخمر عَدُوّاً ، لا شرفاً ؛ فيلزم أن يكون أخسَّ الأمور ؛ وذلك لأن العقل إنَّما سمِّي عقلاً أخذاً من عقال النَّاقة ، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح ، كان عقله مانعاً من الإقدام عليه ، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدَّاعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل العاقل له عن فعل القبيح .
ذكر ابن أبي الدنيا : أنَّه مرَّ على سكران ، وهو يبول في يده ، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضِّئ ، ويقول : الحمد لله ، الذي جعل الإسلام نوراً ، والماء طهوراً .
وعن العبَّاس{[3396]} بن مرداس أنَّه قيل له في الجاهليَّة : لم لا تشرب الخمر ؛ فإنها تزيد في جراءتك ؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي ، فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيِّد قوم ، وأمسي سفيههم{[3397]} .
وثانيها : ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة ، والبغضاء ، والصَّدّ عن ذكر الله ، وعن الصَّلاة .
وثالثها : أنَّ هذه المعصية من خواصّها أنَّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها ، كان ميله ونفسه عليها أقوى ، بخلاف سائر المعاصي ، فإنَّ الزَّاني مثلاً إذ فعل مرَّةً واحدةً فترت رغبته ، وكلَّما زاد فعله ؛ كان فتوره أكثر ؛ بخلاف الشّرب فإنَّه كلَّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر ، فإذا واظب عليه ؛ صار غارقاً في اللَّذَّات البدنيَّة معرضاً عن تذكر الآخرة ، حتّى يدخل في الّذين نسوا الله ، فأنساهم أنفسهم .
وبالجملة إذا زال العقل ؛ حصلت القبائح بأسرها ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام : " اجْتَنِبُوا الخَمْرَ فَإِنَّها أُمُّ الخَبَائِثِ " {[3398]} ويصدر عن الشَّارب المخاصمة ، والمشاتمة وقول الفحش والزُّور .
وأما الإثم الكبير في الميسر ، فإنَّه يفضي إلى العداوة أيضاً لما يجري بينهم من الشَّتم ، والمنازعة ؛ لأنَّه أكل مال بالباطل ، وذلك يورث العداوة ؛ لأنَّ صاحبه إذا أخذ ماله مجَّاناً ؛ أبغضه جدّاً ، وهو يشغل عن ذكر الله ، وعن الصَّلاة أيضاً .
وأمَّا المنافع المذكورة فيهما ، فمنافع الخمر أنَّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النَّواحي ، وكان المشتري ، إذا ترك المماكسة في الثَّمن ؛ كانوا يعدُّون ذلك فضيلةً ، ومكرمةً ، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السَّبب ، ومنها أنَّها تقوِّي الضَّعيف ، وتهضم الطَّعام ، وتعين على الباءة{[3399]} وتسلي المحزون ، وتشجِّع الجبان ، وتُسخي البخيل ، وتصفي اللَّون وتُنعش الحرارة الغريزيَّة ، وتزيد من الهمَّة ، والاستعلاء{[3400]} . ومن منافع الميسر : التَّوسعة على ذوي الحاجات ؛ لأنَّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئاً وإنما يفرّقه في المحتاجين ؛ وذكر الواقديُّ{[3401]} أنَّ الواحد كان ربَّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعيرٍ ، فيحصل له مالٌ من غير كدٍّ ، ولا تعبٍ ، ثم يصرفه إلى المحتاجين ، فيكتسب فيه الثَّناء ، والمدح ، وكانوا يشترون الجزور ، ويضربون سهامهم ، فمن خرج سهمه ؛ أخذ نصيبه من اللَّحم ، ولا يكون عليه شيء من الثَّمن ، ومن بقي سهمه آخراً ، كان عليه ثمن الجزور كلِّه ، ولا يكون له من اللَّحم شيءٌ .
قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } قرأ{[3402]} أُبَيّ : " أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا " .
وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل ، لأنَّ الخمر والميسر سببان فيهما ، فهما فاعلان ، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلُّهما . وقوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [ البقرة :215 ] قد تقدَّم الكلام عليه . وقرأ أبو عمرو{[3403]} : " قُلِ العَفْوُ " رفعاً والباقون نصباً . فالرَّفع على أنَّ " مَا " استفهاميةٌ ، و " ذَا " موصولةٌ ، فوقع جوابها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير : إنفاقكم العفو . والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ ، فيكون مفعولاً مقدّماً ، تقديره : أيَّ شيءٍ ينفقون ؟ فوقع جوابها منصوباً بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضاً ، والتَّقدير : أنفقوا العفو . وهذا هو الأحسن ، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون " ذا " موصولةً ، وفي حال النَّصب كونها ملغاةً . وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها ، وموصولةً مع نصبه . وقد تقدم الكلام عليها مستوفى وإنما اختصرت القول هنا ؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى : { مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً } [ البقرة :26 ] .
اعلم أنَّ هذا السُّؤال ، قد تقدَّم ، وأجيب بذكر المصرف ، وهنا أجيب بذكر الكميَّة .
قال الواحدي{[3404]} رحمه الله : أصل العفو في اللُّغة الزِّيادة ، قال الله تعالى :
{ خُذِ الْعَفْوَ } [ الأعراف :199 ] ، أي : الزِّيادة وقال : { حَتَّى عَفَوْاْ } [ الأعراف :95 ] .
وقال القفَّال{[3405]} : العفو ما سهل وتيسّر ممَّا فضل عن الكفاية ، وهو قول قتادة ، وعطاء ، والسُّدِّي{[3406]} ، وكانت الصَّحابة يكتسبون المال ، ويمسكون قدر النَّفقة ، ويتصدَّقون بالفضل .
قال القرطبيُّ{[3407]} : فالجواب خرج على وفق السُّؤال ، فإنَّ السُّؤال الثَّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق ، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنَّه لما نزل : { قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } [ البقرة :215 ] قال : كم أنفق ؛ فنزل " قُل العَفْوَ " .
والعَفْوُ : ما سهل ، وتيسَّر وفضل ، ولم يشقَّ على القلب إخراجه ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي *** وَلاَ تَنْطقِي في سَوْرَتي حِينَ أَغْضَبُ{[3408]}
وقال طاوس{[3409]} : ما يَسُر ، والعفو اليسر من كل شيءٍ ، ومنه قول تعالى :
{ خُذِ الْعَفْوَ } [ الأعراف :199 ] أي الميسور من أخلاق النَّاس .
قال ابن الخطيب : ويشبه أن يكون العفو عن الذَّنب راجع إلى التَّيسير ، والتَّسهيل ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ ، والرَّقِيقِ ، فَهَاتوا عشْرَ أَمْوَالِكُمْ " {[3410]} معناه : التَّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرَّقيق ، ويُقال : أعفى فلانٌ فلاناً بحقِّه : إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة ، ويقال : أعطاه كذا عفواً صفواً : إذا لم يكدِّره عليه بالأذى ، ويقال : خذ من النَّاس ما عُفِيَ لك ، أي : ما تيسَّر ، ومنه قوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } [ الأعراف :199 ] وجملة التأويل : أنَّ الله تعالى أدَّب النَّاس في الإنفاق ، فقال : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } [ الإسراء :26 ، 27 ] وقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسراء :29 ] وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان :67 ] وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : " خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَن غِنى ، وَلا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ " {[3411]} .
وعن جابر بن عبد الله قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجلٌ بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله ؛ خذها صدقةً ، فوالله ما أملك غيرها ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من بين يديه ، فقال : هاتها مغضباً ؛ فأخذها منه ، ثمَّ حذفه بها ، لو أصابته لأوجعته ثم قال : " يَأْتِينِي أَحَدُكُم بِمالِهِ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عن ظَهْرِ غِنَى ، خُذْهَا ، فَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِيها " {[3412]} وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يحبس لأهله قُوتَ سَنَةٍ{[3413]} .
وقال الحكماء{[3414]} الفضيلةُ بين طرفي الإفراط والتَّفريط .
وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار .
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " العَفْوِ " في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ :
الأول : العفو : الفضل من الأموال قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } يعني الفضل من المال .
الثاني : " العفو " الترك ؛ قال تعالى : { إلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } [ البقرة :237 ] أي يتركوا ، ومثله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } [ الشورى :40 ] ، أي : ترك مظلمته .
الثالث : العفو بعينه ، قال تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ } [ آل عمران :155 ] .
واختلفوا في هذا الإنفاق ؛ هل المراد به الواجب ، أو التطوُّع على قولين :
الأول : قال أبو مسلم{[3415]} : يجوز أن يكون العفو هو الزَّكوات وذكرها هاهنا على سبيل الإجمال في السَّنة الأولى ؛ لأنَّ هذه الآية قبل نزول آية الصَّدقات ، وأنزل تفاصيلها في السَّنة الثَّانية فالنَّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ، ما يكفيهم في عامهم ، ثمَّ ينفقون الباقي ، ثمَّ صار هذا منسوخاً بآية الزَّكاة .
القول الثاني : أنَّ المراد به صدقة التَّطوُّع .
قالوا : لأنَّه لو كان مفروضاً لبين الله مقداره ، فلمَّا لم يبيِّنه ، وفوَّضه إلى رأي المخاطب ؛ علمنا أنَّه ليس بفرضٍ .
وأجيب ، بأنه لا يبعد أن يوجب الله - تعالى - شيئاً على سبيل الإجمال ، ثمَّ يذكر تفصيله وبيانه .
قوله تعالى : { كَذلِكَ يُبيِّنُ } الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : تبييناً مثل ذلك التَّبيين يبيِّن لكم ، وإمَّا حالاً من المصدر المعرفة ، أي : يبيِّن التبيين مماثلاً ذلك التَّبيين . والمشار إليه يبيِّن حال المنفق ، أو يبيِّن حكم الخمر ، والميسر ، والمنفق المذكور بعدهما . وأبعد من خصَّ اسم الإشارة ببيان حكم الخمر ، والميسر ، وأبعد منه من جعله إشارةً إلى جميع ما سبق في السُّورة من الأحكام .
و " لَكُمْ " متعلِّق ب " يُبَيِّن " . وفي اللاَّم وجهان ، أظهرهما أنَّها للتبليغ كالتي في : قلت لك .
والثاني : أنها للتَّعليل وهو بعيدٌ . والكاف في " كَذَلِكَ " تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أو للسامع ، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد .
والثاني : أن تكون خطاباً للجماعة ، فيكون ذلك ممَّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد ، ويؤيِّده قوله " لَكُمْ " ، و " لَعَلَّكُمْ " ، وهي لغةٌ للعرب ، يخاطبون في اسم الإشارة بالكاف مطلقاً ، وبعضهم يستغني عن الميم بضمَّةِ الكاف ؛ قال : [ الرجز ]
وَإِنَّمَا الهَالِكُ ثُمَّ التَّالِكُ *** ذُو حَيْرَةٍ ضَاقَتْ بِهِ المَسَالِكُ
كَيْفَ يَكُونُ النَّوْكُ إِلاَّ ذَلِكُ{[3416]} *** . . .